كتاب عربي 21

اعتصموا أو انقرضوا

جمال الجمل
1300x600
1300x600
(1)
الحديث الدائر عن النهضة، والتحول الديموقراطي في مصر، مجرد لغو فارغ لا يستند إلى أي حقائق على أرض الواقع، سواء بشر به إعلام الموالاة، أو أكده السلطان الغوري بنفسه في تصرفاته العنترية في الداخل، وخضوعه الكامل والمهين لإملاءات الخارج من "الباب العالي في واشنطن" إلى "ممالك أرض الرز" في المشرق العربي.

(2)
باختصار موجع، مصر ليست مرشحة، ولا مؤهلة، لعبور المستوى الذي تلعب فيه "الجيم" منذ 6 قرون.. كل ما هناك أنها تغير ملابسها حسب العصر، لكن أفكارها وطريقة لعبها تظل كما هي منذ تأرجحت جثة طومان باي على الباب الجنوبي لمدينة القاهرة، وحتى الآن، وربما تستمر لأجل غير معلوم.

(3)
المشهد المصري يعيدنا إلى سنوات العماء والغباء في نهايات حكم قنصوه الغوري:

* أزمة اقتصادية عنيفة بعد اكتشاف طريق الرجاء الصالح، وتراجع إيرادات مرور القوافل التجارية نتيجة  الفوضى وغياب الأمن، وانتشار عصابات قطع الطرق.

* عدو متربص يريد الانقضاض على مصر، وضمها إلى الخلافة كولاية تبيض الذهب للباب العالي.

* ازدهار حركة الجواسيس والبصاصين في الداخل.

* تفكك وحدة الدولة إلى كيانات صغيرة تدين بالولاء لكبار المماليك الطامعين في الحكم.

* زيادة معدلات الفقر والبؤس، وانتشار الظلم والجباية فوق احتمال وصبر العوام.

* انهيار التعليم، وتراجع دور الأزهر، وانقسام علماء الدين بين مولاة أمراء المماليك، أو الانضواء تحت رايات الدراويش والصوفية البعيدة عن الدنيا وأمور الحكم.

(4)
لا تصدقوا أن الغوري يستطيع بمماليكه فقط، أن يواجه القدر العاتي للإمبراطورية الطامعة، ولا تصدقوا أن دولة بهذه الهشاشة يمكنها أن تعبر بسهولة نحو المستقبل، فالهزيمة تبدأ من الداخل، ويفزعني أننا نراها حولنا بكل ألفة واعتياد، تطل علينا برأسها المخيف في كل مشهد وموقف كالأفعى المجلجلة، لتصدمنا بالحقائق المخجلة التي نعيشها، والمفزع أكثر أن هناك من "أولاد الدولة" من يتبجح كثيرا فيدافع عنها (الهزيمة/الأفعى) باعتبارها "إنجازات"، مع أن هذه الدولة المدججة بالسلاح وقنابل الغاز لا تستطيع أن تحمي طالبا يريد أن يتعلم بسلام، ولا تستطيع أن تضع الحقائق أمام شعبها من دون تزوير وتعبئة إعلامية رخيصة، ولا تستطيع أن تفرض احترامها ومكانتها على المستوى الدولي والإقليمي في ظل الخلل الرهيب الذي تعاني منه في كل المجالات.

(5)
يا أصدقائي الطيبين/ من العار أن نرضى بدولة تمد يدها لتأكل، دولة تسمى الأشياء بغير مسمياتها، دولة تتقلص فيها الحريات، ويترعرع فيها الفساد، ويتمدد فيها التخلف، ويتفشى فيها المرض والخداع بنفس الدرجة التي تتفشى بها الرشوة والعشوائية.. دولة تتبجح بالحديث عن التقدم والديموقراطية وحقوق الإنسان والعدالة، مع أنها دولة "قروسطية" في جوهرها مع قشرة "فالصو" مدهونة بطلاء عصري رخيص لا يخفي عوراتها وخلفها، بحيث صارت مسخا مشوها عاجزا تابعا لا يمتلك قراره، لا في الداخل ولا في الخارج!

(6)
هذا لا يعني أن مصر انتهت، وليس أمامها إلا أن تستسلم لمصير الهنود الحمر، ولا يعني أن اليأس قد فرض شروطه على المحروسة، لكنه يعني أن "الحالة زفت"، وأن أي أمل للنهوض لابد أن يبدأ من تشخيص واقعي، واعتراف بما نحن فيه، ومدى جديتنا وتكاتفنا في الخروج من المأزق، والتحرك نحو ما نصبو إليه.

(7)
أول "الزفت" أن لدينا الآن: قطاعات كبيرة من الشعب صارت أكثر تفككا وتخلفا من الدولة، وأكثر تسلطا من أمراء الحكم، وأكثر جشعا من شاهبندر التجار، وأكثر عنفاً ودموية ولصوصية من مصاصي المال والدماء والدماغ، كما أن لدينا: سلطة مستبدة متخلفة في مفاهيمها وممارساتها، وفي هذا المقال لن أركز كثيرا على سلطة التخلف والقهر فهي معروفة ومكشوفة لكثيرين، لكنني أفكر أكثر في نقد القطاعات المزيفة التي تعكر مفهوم ودور الشعب، بالرغم من أنها منه وإليه.

(8)
ما يزعجني ويؤلمني أكثر في هذه اللحظة أن لدينا شعب لا يعرف ماذا يريد؟.. شعب يتوزع على تيارات وجماعات وأعمال، لا تفيد مصالحه الخاصة، ولا تصب في الصالح العام، ربما لأن أفراد الأسرة الواحدة الآن لا يتفقون فيما بينهم على ما هو الصالح العام، فيما تحولت المصلحة الخاصة إلى مطالب استهلاكية تهتم بالقشرة الخارجية اللامعة أكثر مما تهتم بجوهر الإنسان، لا فرق بين من ينفق الملايين أو عشرات الآلاف لضمان أحدث طراز في السيارة والموبايل، وماركات الملابس، وبين من يلبي نفس الاحتياجات باقتصاديات "البالة" وأسعار وكالة البلح.. كلنا نستهلك ولا ننتج، نعيش عالة في دولة تعيش عالة، بعضنا يحلم بدولة الخلافة التي تعيد أمجادا لم تستفد منها مصر شيئا لائقا طوال تاريخها، وبعضنا يحلم بدولة "هاي كوبي" من الغرب المتحرر، الذي لم تستفد منه مصر شيئا لائقا طوال تاريخها، وبعضنا يصدق أن أم الدنيا ستتحول برغم كل هذا التفكك والتناحر إلى دولة "أد الدنيا"، وبعضنا استسلم لحياته تفعل به ما تشاء، ولا يطلب إلا اللقمة، والهدمة، وقبرا يتيح لأولاده أن يقرؤوا عليه الفاتحة إذا كان بينهم بارا يهتم بالدعاء.

(9)
المؤسف الآن أن هذا البعض بدأ في تخوين ذلك البعض، ثم بدأت ملامح الحرب بين الجميع، وغدا تشتد وتمتد، وهذا يعني أن الفرقاء لن ينالوا لا دولة خلافة، ولا دولة علافة، لأن "اعتصموا" هي أول خطوة في الطريق نحو المستقبل، وإذا كان بيننا من يتصور أن الأوان قد فات، وأن النسيج اهترأ وتمزق ولم يعد بالإمكان إلا الاستسلام والتخلي عن الأحلام، فلا بد أولا من إسكات هذه الأصوات اليائسة، وتمهيد المجال لوحدة الصف، لصناعة "أمل واقعي" بالتفكير والإرادة والعمل، بدلا من استسلام الخنوع والرضا بالذل والضعف والمهانة، وكذلك بدلا من "أمل الكلام" والتمني الممزوج بالكسل واليأس، أو الاكتفاء بالرد على الظلم بالهجاء، وعلى التخلف والقمع بطلقات السخرية و"الألش" التي توقف تأثيرها عن تسريب ثورة الغضب من النفوس المحتقنة، بدلا من أن تكون مقدمة لوعي الثورة وإرادة تحقيق دولة القانون، رغماً عن بطش الغوري ومماليكه.

وفي هذا المجال، سأقول الكثير عما قريب.. وأتمنى لو شاركوني القول والفعل، فبلادنا تستحق.. ومستقبل أولادنا يستحق.
1
التعليقات (1)
حسين/لندن
الخميس، 20-07-2017 09:31 م
(بعضنا يحلم بدولة الخلافة التي تعيد أمجادا لم تستفد منها مصر شيئا لائقا طوال تاريخها،) أعتقد أن في هذا القول ظلم كبير،،،كان لمصر دور كبير على مر العصور والإسلاميه منها بشكل خاص،،

خبر عاجل