كتاب عربي 21

القرصنة من البحر إلى الإعلام

محمد هنيد
1300x600
1300x600
أُسدل الستار مؤخرا عن مصدر عملية القرصنة التي أشعلت أزمة الخليج الراهنة وأدت إلى حصار دولة عضو في مجلس التعاون الخليجي بر ا وبحرا وجوا. فقد أثبتت نتائج البحث الذي قام به مكتب التحقيقات الفدرالية تورط دولة الإمارات في قرصنة وكالة الإعلام القطرية وتزوير التصريحات المنسوبة لأمير البلاد. المصطلحات المتداولة لتوصيف العملية هما أساسا مصطلحا القرصنة والاختراق وكلاهما يؤشر على عمل عدواني لا يخرج عن إطار العمليات العسكرية التي تنفذها دولة ما ضد دولة أخرى.

فالاختراق عملية تجاوز حدود مجال سيادي ما بواسطة وسائل غير مشروعة عادة من أجل المساس بسيادة المجال وتحقيق أهداف خارجية عدوانية. الاختراق مصطلح لا يخلو من دلالة تجاوز القانون لأن الخرق هو نفسه عملية طعن في القانون وتجاوز له. أما القرصنة فعملية حربية بامتياز كانت بأعالي البحار ولا تزال ساحات لها وآخرها بحار الصومال التي لا تزال تشهد عمليات قرصنة وخطف لبواخر تجارية تعبر بحار المنطقة. فخطف البواخر والسطو عليها واعتقال طواقمها ثم طلب الفدية هي سلسلة المراحل التي تمثلها عملية القرصنة نفسها.
 
خطورة قرصنة الوكالة القطرية للإعلام لا تتمثل في العملية نفسها بما هي عمل عدواني ينتهك سيادة دولة مستقلة بقدر ما تتمثل خطورتها في ما انجرّ عنها من تداعيات خطيرة كادت تقود المنطقة إلى حرب عسكرية كارثية. فالتصريحات التي تم إلصاقها بالسلطات القطرية كانت الأساس الذي بُني عليه مشروع الحصار وكانت كذلك نقطة البداية لمشروع كبير كانت قطر محورا من محاور ترسيمه. 

لكن اللافت الأكيد هو الانكشاف الكبير للمشهد الإعلامي لدول الحصار وخاصة بالنسبة للإعلام الإماراتي والسعودي لأن الإعلام البحريني لا يكاد يذكر، أمّا الإعلام المصري فقد خرج منذ مدة من إطار الإعلام ليتحول إلى أداة لبث الفتنة وشيطنة الخصوم بشكل لا يكاد يصدّق أحيانا.

الإعلام كان منذ البداية في قلب المعركة الخليجية لأن عملية القرصنة طالت مؤسسة إعلامية رسمية بشكل يكشف معطيات هامة منها: 
إن انطلاق الأزمة من بوابة الإعلام يعكس أهمية استقطاب الرأي العام الخليجي والعربي في هذه المعركة لأن التقارير والمقالات التي أعقبت عملية القرصنة بساعات قليلة تؤكد أن العملية كانت مرتبة بشكل متناسق يقع المتتبع الخليجي في قلبها. المعطى الثاني يتمثل في غياب أسس حقيقية للأزمة أي أن كل التهم التي وجهت لدولة قطر من تهم بدعم الإرهاب وتمويل الجماعات الإرهابية وبث الفتنة والتدخل في الشؤون الداخلية للدول إنما هي تهم واهية لأن مصدر الأزمة هو مصدر إعلامي بُني على ادعاءات باطلة.

أما الحرب الإعلامية التي اندلعت بعد عملية القرصنة والتي جندت لها دولة الإمارات إمكانيات هائلة وتبعها الإعلام السعودي بعد ذلك فقد كانت مؤشرا هاما على أن دور الإعلام كان دورا محوريا في انطلاق الأزمة وفي تطورها بعد ذلك.

مؤشر آخر هام على أن الإعلام لم يكن فقط مصدر الأزمة وأداتها الرئيسية بل إن الشروط التي وضعتها دول الحصار تتضمن استهدافا لمنبر إعلامي هام هو قناة الجزيرة. 

قناة الجزيرة شملها الحصار وطالب المحاصرون بغلقها وهي أول مرة تطالب فيها مجموعة من الدول بغلق قناة تلفازية كشرط من شروط فك الحصار عن دولة أخرى. قد نختلف مع قناة الجزيرة ومع خطها التحريري لكن من غير المتعارف عليه في العلاقات بين الدول المطالبة بغلق قناة تلفازية في دولة أخرى. صحيح أن القناة مثلت كابوسا حقيقيا لدول النظام الاستبدادي العربي قبل الربيع وبعده لكنها قناة لم تغادر الإطار المنظم لحرية التعبير ولاحترام الرأي والرأي الآخر وهو ما تؤكده السمعة العالية التي تحظى بها القناة في المحافل الدولية أو مجموع الجوائز التي حصدتها خلال تاريخها القصير مقارنة ببقية المنابر الإعلامية.

معلوم أيضا أن مجموع القنوات التي خرجت للمشاهد العربي سواء العربية منها أو الناطقة بالعربية إنما جاءت بهدف قضم نسب مشاهدة القناة التي تحولت سريعا إلى قصة نجاح نادرة في المحيط الإعلامي العربي. قنوات سكاي نيوز والعربية وروسيا اليوم وبي بي سي العربية وفرنسا أربعة وعشرون ... كلها قنوات جاءت بعد قناة الجزيرة من أجل الحد من الوعي الذي تنشره القناة والذي صار مهددا لوجود النظام الاستبدادي العربي نفسه.

الإعلام إذن محور رئيسي من محاور أزمة الخليجية الراهنة لأنها انطلقت منه عبر قرصنة الوكالة القطرية للإعلام ثم تطورت عبره من خلال الحرب الإعلامية التي لا تكاد تتوقف ثم هي تستهدفه أخيرا عبر مطلب غلق قناة الجزيرة. بناء عليه يمكن القول أن المستهدَف الأساسي من الأزمة الراهنة هو وعي الإنسان العربي بما أن الإعلام هو أحد الروافد الأساسية لهذا الوعي.

إن شيطنة قطر وترويج كل التهم الباطلة ضدها والتي ثبت بالدليل والبرهان زيفها إنما تمثل محاولة لقرصنة الوعي العربي الجديد الذي اشتد عوده بعد ثورات الربيع السلمية. لقد رفضت قطر الاعتراف بالانقلابات العسكرية ورفضت ذبح ثورات الشعوب والتآمر عليها ومثلت الجزيرة منبرا للوعي الجديد ومساحة للتعبير عن الرأي الحر مهما كانت مشاربه وخلفياته وهو ما حرك ضدها كل أجهزة الدولة الاستبدادية العميقة التي تحاول اليوم خنقها ومحاصرتها.

إن انكشاف حجم الجريمة اليوم لا يقتصر على تبرئة دولة قطر من كل التهم المنسوبة إليها سواء اتفقنا مع الدور القطري أو اختلفنا معه، لكنه يعري كابوس النظام الرسمي العربي وجرائمه في حق الثورات السلمية المطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية. الوعي لا يموت ولا يندثر بغلق قناة أو محاصرة دولة بل هو يبقى حيا قائما ثابتا يتجدد إلى حدود اللحظة التي يحقق فيها المطالب التي من أجلها نشأ وتطور.
1
التعليقات (1)
يوسف
الخميس، 20-07-2017 09:12 م
كلام في الصميم