مقالات مختارة

عن عدنان إبراهيم.. الظاهرة وإشكالاتها

ياسر الزعاترة
1300x600
1300x600
مررت على حساب د. عدنان إبراهيم، ورأيت مقاطع من برنامجه الأخير في رمضان بعنوان “صحوة2”، وفيه قضايا دينية وسياسية وتاريخية. 

ما استوقفني هو أن الرجل يتحدث في كل شيء، من الدين إلى الفتوى إلى السياسة، وتاريخ الجماعات وتقييم الدول، ويبدو واضحا أنه يستجيب بقدر ما لما يريده مقدم البرنامج الذي يوجّه دفة الحديث وفق الوجهة التي يريد.

قبل ذلك، تابعت تحولات موقفه من الربيع العربي، من الترحيب إلى التشكيك، وتحولات موقفه من الثورة السورية أيضا، من الوقوف بجانبها إلى رفضها والتشكيك فيمن يقفون خلفها، والانتصار ضمنيا للنظام، وحاورته قناة “الميادين” التابعة لإيران لذات الغرض.

قبل مدة ليست بعيدة، سمعت له مقطعا يقول فيه إنه لا يتدخل في السياسة، وإنه ليس سياسيا، فيما يبدو أنه رد على انتقادات وُجهت إليه بسبب مواقف قالها، أو قضايا سكت عنها، كما يتضح من حديثه الغاضب، والذي تكرر قبل أيام على نحو أكثر حدة ردا على انتقادات مشروعة على موقف سياسي له.

تابعت قبل ذلك وخلال سنوات ذلك الهجوم الشرس عليه من فئات عديدة تصل حد اتهامه بالزندقة، فضلا عن التشيع، وتهم كثيرة، وهي في بعضها حادة، وفي وقت سمعت فيه أيضا آراء إيجابية، مع تحفظات، كما رأى الشيخ سلمان العودة، وطارق سويدان وسواهما.

ما ينبغي أن يقال ابتداء هو أن هذا الاهتمام بظاهرة عدنان إبراهيم ما كان ليحدث لولا أهمية الرجل، والهجوم عليه دليل آخر، فلو كان شخصا هامشيا لما تجشّم المعنيون عناء مهاجمته، وصولا إلى عروض أو دعوات لمناظرته من قبل رموز كبار أو هيئات كبيرة.

يتميز الرجل بثقافة موسوعية تبدو نادرة بين الدعاة والعلماء في الساحة الإسلامية بكل ألوانها، إذ يجمع بين العلم الشرعي الواسع (مع غياب التخصص)، وبين الاطلاع على العلوم الحديثة وقدرة لافتة على التوفيق بينها وبين الدين، وقدرة أكبر على مواجهة الملحدين والمشككين، فضلا عن تقديم خطاب إسلامي “إنساني” إن جاز التعبير، وهو الجانب الأكثر حضورا في شخصيته، وربما الأكثر سببا في شهرته.

وفيما تورط في البدايات بقصة معاوية والصحابة دون جدوى ولا مبرر، فإنه ما لبث أن تركها، وإن بقيت تتردد في مواقع التواصل التي ينتقي الناس فيها بطريقتهم، إن للإدانة أو للمديح.
من أسباب الهجوم عليه، إضافة لما ظهر من تناقضات عنده في سنوات ليست طويلة، هو انتقاده للتيار السلفي ومفرداته (خفف كثيرا بالطبع). وفي حين قد يرى البعض إنه “أشعري صوفي”، حسب التصنيفات السائدة، فإن الواقع أن من الصعب حشره في إطار محدد، إذ يبدو في تحولاته أوسع من ذلك، رغم قرب التقييم المذكور من الحقيقة إلى حد ما.

الآن، أضاف الإخوان لمسلسل هجائه وتشكيكه، كما في البرنامج الأخير، ثم شكل كل قوى “الإسلام السياسي”، وهو ما يبدو استجابة لأجندة القناة أو جهات معينة تعامل معها في الفترة الأخيرة، وهي معنية باستهداف كل مفردات ما يسمى “الإسلام السياسي”، إن كان سلفيا أم إخوانيا. ثم انتقد نسبيا إيران (تحدث عن عدم وجود مسجد للسنّة في طهران)، بعد أن كان يمتدحها بشكل لافت.

قصص الكرامات هي مما يؤخذ عليه، ويجري استغلالها من قبل البعض للهجوم عليه، لكن النفس الصوفي يبدو حاضرا هنا، وهو ما يبدو مثيرا في كيفية الجمع؛ بين مفردات العلوم الحديثة، وبين خطاب الكرامات الذي ينطوي على تزكية للنفس، بصرف النظر عن الموقف منه.

في التقييم العام، يمكن القول إن لدى الرجل الكثير مما يمكن أن يقدمه لساحة الدعوة الإسلامية، بخاصة للأجيال الجديدة التي تكثر أسئلتها، ولا تجد من الخطاب التقليدي ما يجيب عليها، ما يعني أن شيطنته بالكامل ليست من المنطق في شيء. 

ولو تم تتبع أخطاء كل داعية أو عالِم واعتبرناها سببا في رفض كل ما لديه، فسنخسر الكثير من الخير، لكن كثرة الأخطاء، بخاصة في قضايا الأمة والشأن العام، بخاصة الحساسة منها، تنسف القبول في نهاية المطاف، ويكون موقف الناس محقا حينذاك.

ما يعنيني هنا في هذه السطور هو الجانب السياسي في شخصيته وخطابه. ولو جاز لي أن أوجّه نصيحة إليه، فسأقول له إن السياسة “محرقة”، وقد أحرقت كثيرين من قبل، ومن متابعتي لتحولات مواقفه السياسية، يمكنني القول دون تردد إن معرفته السياسية محدودة، الأمر الذي يورطه في مآزق كبيرة، وتحولات لا يمكن أن تكون مقبولة في سنوات معدودة.

والحال أن السياسة تكون أعقد من الرياضيات في بعض الأحيان، إذ تواجهك بعدد كبير من المتغيرات مقابل ثابت واحد، الأمر الذي يستعصي على فهم من لم يدرك أبجدياتها وتحولاتها، ويكون لديه من الحس السياسي الكثير. ومن ضمن السياسة إدراك ما ينبغي أن يقال في هذه المرحلة ولا يقال في تلك، وتأثير ذلك على المتلقين وعلى القضايا المطروحة على أجندة النقاش بين جماهير الأمة.

السياسة هي إدراك لحقائق التاريخ، وموازين القوى القديمة والراهنة، وتحليل للمواقف وأبعادها، وما وراءها، وما يمكن أن تؤدي إليه، وتاريخ الإمبراطوريات وحركات التحرر، وهذا كله ليس متوفرا للرجل، لأنه لم يكن من دائرة اهتماماته الأساسية، وهذا لا يعيبه، فلديه من المعارف ما يكفيه، ويمنحه التميز، إذا أحسن استثمارها لمصلحة الإسلام والمسلمين، دون افتعال معارك جانبية، أو تمرد على الثوابت المحسومة، كما في حديثه عن قصة “إرث المرأة” مؤخرا.

المصيبة التي يواجهها عدنان إبراهيم هي ذاتها التي واجهها آخرون من الدعاة والمفكرين من قبل، وهي أن لديهم مريدين يسألونهم في كل شيء، ولما كانت السياسة وتعقيداتها تلح عليهم، فإن أسئلتها لا تتوقف، وحين يتورط الداعية في الرد يقع في أخطاء كبيرة. وهنا يمكن التمييز بين الموقف السياسي الذي ينتصر للأمة في قضايا واضحة، وبين الدخول في دهاليز السياسة ببضاعة مزجاة لا تعين على الفهم، مع أن هذا قد يكون فرعا لذاك في بعض الأحيان.

من الصعب على هذه السطور أن تحيط بالمآزق التي وقع فيها الرجل في قراءاته ومواقفه السياسية. ولا شك أن تقلبات مواقفه من الربيع العربي والثورة السورية والإسلام السياسي وإيران وغيرها في بضع سنوات تؤكد ذلك.

ما أريد قوله أن لهذا الرجل ثقافة ومعارف يحتاجها الشباب في هذه اللحظة الراهنة، بعيدا عن الخطاب التقليدي الذي لا يجيب عن أسئلتهم، وقد يدفع بعضهم نحو مسارات عبثية، وحين يركز في هذا البعد، بعيدا عن ورطات السياسة، وتوظيف بعض الجهات لمواهبه، فسيقدم الكثير. أما إذا تورط في مشاكل أهل السياسة والمال، وقد حدث ذلك بالفعل، فسيجد نفسه يخسر، وقد خسر بالفعل، كما خسر غيره من قبل، وفقدوا دورهم وتأثيرهم. لديه فرصة لإعادة الحسابات وتجنب ذلك المصير، فهل يفعل؟ نرجو ذلك.
0
التعليقات (0)