مقالات مختارة

جوع المثقفين والفنانين

صالح عوض
1300x600
1300x600
أذهلني ما استعرضته ذاكرتي ذات مساء عن فنانين وأدباء وكتاب ومفكرين وعلماء، ضرب الجوع أمعاءهم وطوى أجسادهم وأحنى ظهورهم، وحال بينهم وكثير من أحلامهم البسيطة. وأصابتني خيبة الأمل الكبيرة في أصحاب الثروة والمؤسسات الثقافية والفكرية في بلاد العرب والمسلمين، الذين يتلذذون بجوع المثقفين والأدباء والمفكرين، بل وفي العالم تذكرت نجيب سرور كيف كان يطوي الشوارع حافيا يبيت على الرصيف وهو العبقري شعرا ومسرحا..

تذكرت أمل دنقل صاحب رائعة "لا تصالح"، وكيف مات لم يستطع توفير دريهمات لشراء الدواء، تذكرت المفكر المدهش جمال حمدان صاحب عبقرية المكان و"شخصية مصر" كيف عاش فقيرا ومات فقيرا، ويطوف بي التجوال فأتذكر علي شريعتي وهو يبحث عمن يتبنى طباعة ما يكتب وهو مفكر الثورة ومنظرها الأنجب، فكانت ترده دور النشر في طهران خائبا فيطوي على سيجارته ليموت في عز شبابه، أما مالك بن نبي المفكر الحضاري الرائد في بلاد العرب والمسلمين، صاحب سلسلة مشكلات الحضارة الذي أوقف عمره في التصدي للمؤامرة التي تستهدف مجتمعاتنا، وتقف حجر عثرة أمام نهوضنا.. هذا العظيم كان لا يجد ثمن الأوراق التي يكتب عليها أفكاره وتصوراته، وهناك من العلماء والشيوخ الكبار الذين كانوا لا يجدون قوت يومهم. 

تذكرت ذلك وعادت بي الوقائع إلى تاريخنا العربي الإسلامي عن بعض الصحابة والتابعين وتابعيهم من العلماء والمفكرين، وتحسست بطونهم الخاوية وأيديهم الفارغة، فيما يتمرغ سواهم في المتع الحلال وغير الحلال.

الأمر ليس حصرا في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، إنه يتمدد إلى المجتمعات البشرية، فكم كابد الأدباء والمفكرون والفلاسفة الجوع والفقر، "فنسو فانقو" الرسّام الهولندي الذي عاش جائعا ومات منتحرا ولم يبع أيا من لوحاته، وبعد موته كان ثمن إحدى لوحاته أربعين مليون دولار. و"فرنك كفكا" توفي بمرض السل من شدة الفقر، وسواهم من الأدباء والمفكرين الثوار في العالم الذين هجمت عليهم الحاجة والفاقة.

أين الخلل؟ من المسؤول؟ هل هذا طبيعي؟ كيف يمكننا تدارك ما حصل؟

في الغرب، هناك محاولة دؤوبة لتدارك الأمر. ففي الغرب أنشئت جمعيات ومؤسسات تعتني بالثقافة والأدب والفن، وتوفر له فرص النماء والتطور وتفتخر بما لديها من فنانين ومفكرين ومبدعين، وفي تاريخنا العربي الإسلامي نماذج محفزة لكل صاحب إبداع، فلقد كان يدفع للمترجم وزن كتابه ذهبا، كما أن العلوم والفنون كلها وجدت مناخها الفسيح للتنامي، فكان الشعراء والأدباء والموسيقيون والبنيان الجميل واللباس الأنيق.

إنني أتهم الجهلة واللصوص كلهم أين كانت مواقعهم، هؤلاء الساخرون من الثقافة والمثقف، والمحتقرون للحرف والكلمة، المتلذذون بمناصبهم ومواقعهم، موظفين كبارا أو صغارا أتهمهم بأنهم العقبة الكأداء امام مهمة الثقافة في بلداننا. لعل الفكرة اتضحت أنه لابد من الاهتمام الرسمي والشعبي بما يكفل حياة كريمة للمثقف والمفكر والأديب والفنان.. لأن الجوع كافر.

الشروق الجزائرية
0
التعليقات (0)