مقالات مختارة

الخطأ التاريخي قبل السياسي في أزمة الخليج

أحمد القديدي
1300x600
1300x600
في العقود الماضية عندما كنا شبابا عربيا نتابع الحراك العلمي والثقافي الزاخر في باريس، ونتعلم من أساتذتنا الكبار كيف نفكر ونختار طريقنا بحرية، كنا ندرك أننا حمالو رسالة لتغيير ما بشعوبنا من حال الجمود والوهم. ولعل بعض المحاضرين العلماء الفرنسيين كانوا أشد تأثيرا على عقولنا بابتكار العبارة النافذة والإشارة الهادفة، مثل ذلك التعريف الذي قاله لنا عالم السياسة والحضارة "رايمون أرون" ذات محاضرة، حين تحدث عن الفرق بين الخطأ التاريخي والخطأ السياسي في مواقف الحكام والماسكين بالسلطة.

وأذكر جيدا الأمثلة التي ضربها ليدلل على صحة نظريته تلك، حين قال إن الخطأ السياسي هو الذي بالإمكان تصحيحه والحد من آثاره السلبية على المدى القريب أو البعيد، بعكس الخطأ التاريخي الذي يؤدي بمن ارتكبه وبمن هم تحت حكمه وبالناس جميعا أحيانا إلى التهلكة. يقول أستاذنا الراحل "رايمون أرون"، إن قرار أدولف هتلر باحتلال النمسا كان خطأ سياسيا، أما قراره احتلال فرنسا ثم قصف لندن ثم الزحف على الاتحاد السوفييتي هي أخطاء تاريخية، أدت بالطبع إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية وإلى ربع مليون ضحية، وإلى خلق ما يسمى بالنظام العالمي الجديد الذي صنعه الحلفاء المنتصرون. أي إلى تغيير جذري في العلاقات الدولية. رحل "رايمون أرون" في أكتوبر 1983 وترك النظام العالمي الأطلسي في عز قوته، إلى أن عشنا نحن بعده بداية تفكيك ذلك النظام منذ التسعينيات بصعود الصين وعودة روسيا ورسم خرائط جديدة للعالم.

عادت إلى ذاكرتي تلك الدروس حين اندلعت منذ أسابيع أزمة الخليج وفرض الحصار على دولة قطر، فقفزت إلى ذهني بإلحاح نظرية الخطأ التاريخي (إقليميا أولا وعالميا ثانيا). ذلك الخطأ الذي ارتكبه مثلا الرئيس الراحل صدام حسين حين اعتدى على دولة الكويت بالغزو، وكان السبب في انتصاب القوات الغربية والأمريكية خاصة في أغلب الدول العربية. والخطأ التاريخي اليوم ارتكبه بارتجال واضح بعض قادة الخليج دون تقدير عواقبه التي يصعب أن نتنبأ بها، والتي من شأنها أن تحول مصير الخليج كله من أيدي الخليجيين إلى أيد أجنبية أو معادية أو مستفيدة، دون أن يقدر جيل قادم من أبناء الخليج على تصحيح ذلك الخطأ أو العودة لسالف الأوضاع.

وواضح أن الأسباب الحقيقية في حصار دولة قطر هو التناقض في التعامل مع العصر ومع تطلعات الشعوب (العربية والخليجية)، إلى الحريات العامة والحقوق الأساسية، لأن قطر منذ تولي سمو الشيخ حمد بن خليفة دفة الحكم وتأسيس قناة الجزيرة واستمرار تلك العقيدة الحضارية مع نجله سمو الشيخ تميم، انحازت لرؤية منسجمة مع تطور الفكر السياسي، وهي رؤية تركيا الجديدة نفسها منذ استلام رجب طيب أردوغان مقاليد الجمهورية. وبالطبع كرست قوى عالمية وأخرى إقليمية جهودها بالمال والمكائد لإسقاط أردوغان الصيف الماضي، ولم تنجح مؤامرة قلب النظام بفصيل من الجيش. بل سجل العالم مدى شعبية الرؤية الأردوغانية ومدى التفاف الجماهير حوله، وأثبتت تركيا للعالم أنها أقوى جأشا وأكبر شرعية وأصدق تصورا من أي جهة معادية.

واليوم حين تتعرض دولة قطر إلى حصار جائر بغرض إنهاكها، فهي تؤكد للعالم أيضا أنها تتعامل مع الأزمة بحكمة واحترام للقانون الدولي، وسعي للحوار الحقيقي أي الذي يدور بينها وبين شقيقاتها دون لَيِّ ذراع أو اعتداء على السيادة وحرية القرار. وأعود لما تعلمناه من تطبيق مبدأ الخطأ التاريخي على ممارسات أربع دول تحالفت ضد قطر لنحلل مسار الوقائع كما تمت، لأن كل حلقات المسلسل انطلقت من فبركة تصريحات لصاحب السمو الأمير تميم بواسطة "هاكر" محترف؛ لأن هذه الدول لم تجد في الحقيقة ما تستند إليه لإدانة قطر، فلجأت إلى استعمال "مدلس" وترويجه، وهو ما لم تغفل عنه المنظمات الدولية ووزارات الخارجية لدول محايدة. وكان ذلك التدليس هو المؤسس للخطأ التاريخي. ثم إن من علامات الخطأ التاريخي أنه يعيد رسم خريطة ستراتيجية لمنطقة الخليج، أهم مميزاتها خروج قرارات دول الخليج من أيدي الخليجيين، لتمسك بها أياد أجنبية لا تريد الخير والسلام والاستقرار لمنطقة الخليج.

الأمل الوحيد هو أن تنفرج الأزمة بإرادة الجميع حين يقررون أن ما يجمعهم أعظم مما يفرقهم، وحين يدرك الذين ظلموا قطر أنهم انطلقوا من باطل، وأن وحدة خليجهم هي الدرع الواقي من الفوضى. وأن المستقبل تصنعه أجيال شابة قادمة من أرحام الخليج لا ترى العالم بعيون الجيل الراهن. فنحن جميعا نلد من صلبنا جيلا ليس بالضرورة متبعا لمنهجنا ولا يخضع قسرا للضغوطات ذاتها التي ربما خضعنا لها عن حسن نية، فهو جيل خلقه الله لزمن غير زمننا. فالتضاد الحقيقي والجوهري هو بين رؤية متقدمة تستشرف المصير وتستبق الأحداث، ورؤية متخلفة تتشبث بأوهام العصر الماضي وتحاول إيقاف سيل النهر الحضاري المتدفق القوي.

الشرق القطرية
0
التعليقات (0)

خبر عاجل