مقالات مختارة

العراق: عودة الأب الضال

مثنى عبد الله
1300x600
1300x600
في تصريحات صحافية، وصف رجل الدين العراقي السعودية بأنها بمثابة أب للجميع. فأين كان هذا الأب الضال غائبا عن العراق طوال أربعة عشر عاما؟ فجأة تقاطر الخليجيون على بغداد من أبواب ونوافذ السياسة، في زيارات علنية وسرية، وكأنهم اكتشفوه لأول مرة، وباتوا يطمحون لتثبيت هذا الاكتشاف حقا حصريا لهم. حتى الصحافة والمراقبين السياسيين من المنطقة ومن خارجها أصابتهم الدهشة لهذا الانفتاح الذي لم تتوفر أي مؤشرات عنه سابقا. فكل شيء جاء فجأة من دون مقدمات ومن دون تطور تدريجي، وهذا السلوك السياسي ليس غريبا بين العرب، فالقطيعة كذلك تحصل دائما فجأة ومن دون مقدمات، كما حصل مع الشقيقة قطر. 

دعوات رسمية توجه إلى السيد مقتدى الصدر فيزور السعودية والإمارات، وربما زيارة محتملة أخرى لغيرهما. زيارة وزير الداخلية العراقي إلى الرياض وتوقيع اتفاقيات أمنية. لقاء رئيس الأركان السعودي بنظيره العراقي. تواجد وزير الخارجية البحريني في بغداد، الذي لم تجف تصريحاته بعد التي هاجم فيها من زارهم لأنهم تدخلوا في الأزمة البحرينية. افتتاح منفذ جديد عرعر الحدودي بين العراق والسعودية. طلب سعودي عاجل بافتتاح قنصلية لهم في مدينة النجف. إعلان مجلس الوزراء السعودي عن تشكيل مجلس تنسيقي مع العراق لتنسيق السياسات الأمنية والاقتصادية والعسكرية. إعادة تشغيل خط الطيران الواصل بين البلدين. تبرعات للنازحين وما بعد النازحين. وقد يقول قائل بأنكم ذممتم الرياض حين ابتعدت، واليوم حين اقتربت ها أنتم تشككون في هذا الاقتراب. أليس الاعتراف بالخطأ بداية صحيحة؟ لكن هل حقا أن الموضوع يمكن النظر إليه بهذه البساطة؟

إن من يراقب تاريخ العلاقات الرسمية العربية ـ العربية على مدى عقود من الزمن يصاب باليأس، وتنعدم لديه صفة النظر بحسن نية إلى أي خطوة يخطوها شقيق تجاه شقيقه. فقد ساهمت المملكة مساهمة فاعلة في حصار العراق في تسعينيات القرن المنصرم، واشترت ذمم دول بالمال كي يستمر الحصار، وتحركت بصورة فاعلة في تجميع عراقيين كُثر وقدمتهم إلى أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية لتشكيل المعارضة ودعمتهم بالمال.

كما كان لها دور سياسي ودبلوماسي واستخباراتي وعسكري ومالي في غزو واحتلال العراق. وعندما حصلت الكارثة فيه بنت سياجا على حدودها معنا، وألقت في السجون كل من تبرع بريال إلى المقاومة العراقية، وانصاعت إلى أوامر جورج بوش الابن بالابتعاد عن الساحة العراقية تماما. 

ولأن مناطق الضغط الواطئ تجلب الأعاصير، ولأن الفراغ فرصة لأصحاب الأجندات، فقد اجتاح العراق من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه الإعصار الإيراني، وباتت طهران تُصرّح علنا بأن بغداد عاصمة إمبراطورتيها. فدفع صانع القرار السعودي ثمن ذلك اضطرابا أمنيا داخليا وخارجيا لم يسبق له مثيل، واستنزافا ماليا كبيرا على التسليح وشراء الولاءات الدولية لحمايتها، كان آخرها المليارات الأربعمئة التي حصل عليها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. فما هي الدوافع وراء الخطوة التي أقدمت عليها الرياض تجاه العراق، والتي كرّت مواقف دول الخليج بعدها في الاتجاه نفسه؟

حتى قبل وصول ترامب إلى البيت الأبيض فتحت الرياض قنوات كثيرة مع مستشاريه والمسؤولين عن حملاته الانتخابية. وعندما تبوء السلطة فتحت كل القنوات الرسمية وغير الرسمية معه، لأنها كانت تنوء بثقل الإحباط الذي عانته من أوباما، الرئيس السابق الذي وضع إيران في صدارة علاقاته الدولية، وركنها على الرف. ولأن الرياض لا تستطيع العيش دون ضامن أمريكي حصرا، ولأن الصراع بينها وبين إيران وصل إلى مرحلة الاستنزاف المُكلف، فقد حصلت تفاهمات بينها وبين إدارة ترامب بهذا الشأن، وأن الانفتاح الحالي على العراق هو أحد بنوده. فالأمريكان لديهم وج,د عسكري وأمني واستخباراتي واسع في العراق، وأن هذا التواجد بحاجة إلى غطاء سياسي عربي، يمد علاقاته مع الأطراف العراقية والشخصيات، التي تعتقد واشنطن بأنهم ليسوا انغماسيين في القرار الإيراني، منهم رئيس الوزراء الحالي ورجل الدين مقتدى الصدر وآخرون ستكشف عنهم الأيام المقبلة. 

كما أن الإدارة الجديدة تعتقد أن قوة الفك الإيراني في المنطقة، ساهم بصنع أنيابه الخمود السياسي للرياض وحليفاتها الخليجيات، واتكالها في كل شيء على صانع القرار الأمريكي، من دون مشروع خاص بهم يواجهون به المشروع الإيراني. وبالتالي هم يعتقدون بأن الدخول السعودي والخليجي وعرب أمريكا الآخرين إلى العراق، سيؤدي إلى حصر الصراع مع الأذرع الإيرانية المباشرة في الساحة العراقية، من دون الغلو في وضع الآخرين بالكفة نفسها، وهذا سيسهل المواجهة مع إيران ويبتعد عن تشتيت الجهود. 

وبهذا الطريق جاءت الدعوة السعودية والإماراتية إلى مقتدى الصدر لزيارتهم، وبالطريقة نفسها تم الإيعاز إلى بعض من يطلق عليهم شيوخ عشائر من العراقيين المحسوبين على الإمارات وغيرها بالعودة إلى العراق للمشاركة في العملية السياسية، وتسقيط خلافاتهم مع الحكم في بغداد. 

وبذلك نكون أمام علاقات سياسة سعودية وخليجية مع العراق هي بالنسخة نفسها من علاقاتهم مع لبنان، لكنها أهم وأكبر تبعا لما يمثله العراق من عمق وموارد وإمكانيات، حيث تكون الساحة العراقية ساحة منافسة تحاول فيها الرياض جمع أوراق بغية تحسين شروطها في اللعبة الإقليمية مع إيران، والسعي لتوسيع مساحة الأرض الحرام بين الطرفين بعد أن تقلصت كثيرا وباتت تضغط على نظرية الأمن القومي السعودي والخليجي لصالح الأمن القومي الإيراني، مع الابتعاد عن تأزيم الوضع إلى أبعد من الحد المسموح به كي لا تصل إلى حالة الاشتباك. 

وقد شرعت الرياض وحليفتها الإمارات، في رسم إجراءات على الأرض لتشكيل تحالفات جديدة يكون فيها من يُسمون أنفسهم زعامات سنية -معارضة وموالاة- تابعين لجناح من البيت السياسي الشيعي. 

إن تغريدات بعض المسؤولين الخليجيين مؤخرا التي تتحدث عن أن أمن العراق هو جزء من أمن الخليج والعرب، وأن مرحلة (بناء الجسور والعمل الجماعي المخلص) قد بدأت، كما يقول وزير الدولة لشؤون الخارجية الإماراتي، كلها جاءت متأخرة جدا بعد الاستثمار الإيراني الكبير في البلد.

وإذا كانوا يعتقدون أن تواجدهم في العراق جنبا إلى جنب التواجد الإيراني، سوف يُجبر الحكم في بغداد على تحقيق توازن في علاقاته بينهم وبين إيران، ويهيئ فرصة مستقبلية للحكومة للتخلص من الهيمنة الإيرانية، فهم واهمون كثيرا، لان العراق دولة عازلة. والدول العازلة لا تستطيع تحقيق الموازنة في العلاقات مع الدول المجاورة لها دون وجود حكم وطني خالص، وإرادة وطنية وقرار سياسي مستقل تماما عن الآخرين. 

وهذه كلها غير متوفرة اليوم في العراق للأسف؛ لأنه الساحة الأهم لإيران من كل الساحات الأخرى. وأن التعويل على استنساخ تجربة التواجد السعودي في لبنان وتطبيقها في العراق غير ممكن. صحيح إن لبنان يعني حزب الله لإيران، لكن العراق بالنسبة لإيران يعني أشياء أهم؛ فهو يعني مرجعية النجف التي تقود الشيعة في العالم، ويعني النفط، ويعني كذلك الطريق البري الإيراني الواصل إلى البحر المتوسط عبر سوريا، الجاري العمل به حاليا.

ما هو دور الطبقة السياسية الحاكمة في بغداد في ظل المعادلة الجديدة للوجود السعودي الخليجي – الإيراني في العراق حديثا؟ ببساطة سيكونون مجرد دمى يتحركون وفق مقتضيات اللعبة الاستخباراتية الجديدة لتحقيق مصالح الطرفين.

القدس العربي

0
التعليقات (0)