قضايا وآراء

جدل تونسي حول الإفلات من العقاب

امحمد مالكي
1300x600
1300x600
تشهد تونس منذ قرابة سنتين جدلا متصاعداً حول مشروع رئيس الجمهورية الخاص بـ"المصالحة الإدارية"، أي العفو عن رجال الأعمال وسامي الإداريين الذين اتهموا بالتورط في الفساد وهدر المال العام خلال حكم الرئيس ابن علي، والذين لم يكونوا، بحسب أصحاب المشروع ومناصريه، الا مجرد "منفذي التعليمات"، ولم يثبت تورطهم في قضايا الفساد وإهدار المال العام. الآن وقد تمت الموافقة على "قانون المصالحة الإدارية" من قبل "مجلس نواب الشعب"، بتأييد 117 نائبا، ومعارضة ثلاثة، وامتناع واحد فقط، ما الذي سيؤول إليه هذا الجدل؟ وهل ستجد المصالحة طريقها إلى التنفيذ؟ وما علاقة قانون العدالة الانتقالية، الذي صادق عليه المجلس الوطني التأسيسي واعتبره مفتاح نجاح الانتقال الديمقراطي في تونس، بهذا القانون الجديد؟

لابد من التأكيد على أن تونس تعيش فعلا وضعا انتقاليا منذ سقوط النظام في 14 يناير/ كانون الثاني 2011، ومن الثابت أن التونسيين، خلافاً لمجمل البلاد العربية، عاشوا فصولَ هذا الانتقال، وتفاعلوا معه إيجابيا، وفعلوا بشكل منتظم وعميق في أهم حلقاته، بل نستطيع الجزم، دون تردد، أنهم قدموا تجربة متفردة على امتداد البلاد العربية، سواء في سلمية نضالهم من أجل إسقاط النظام وإعادة بناء الشرعية، أو عبر انتخاب كل المؤسسات القائدة للانتقال، من مجلس وطني تأسيسي، وانتخابات رئاسية وتشريعية، ووضع دستور موسوم بأبرز سمات الدستور الديمقراطي (يناير/كانون الثاني 2014).

ولعل من المظاهر اللافتة للانتباه في تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، حيوية المجتمع التونسي وديناميته في مصاحبة مسار الانتقال ونقد توجهاته، وأيضا الحوار المفتوح بين أبرز القوى الفاعلة في الحياة السياسية التونسية.

تقدم التجارب الناجحة في مجال الانتقال الديمقراطي، كما حصلت في الربع الأخير من القرن العشرين، أي إبان ما أسماها "صمويل هنتغتون" الموجة الثالثة Third Wave أن تطور الانتقال ليس خطيا Linéaire، وأنه بالعكس يعرف مداً وجزراً، وقد يتعرض إلى كبوة سرعان ما ينهض منها. أما أسباب ذلك فتعود إلى ما يطبع الانتقال من توترات وصراعات بين قوى التغيير والقوى المناظرة لها، والمناهضة لمشروعها، أي الأطراف التي لها مصلحة في بقاء الوضع كما كان، وهي المسماة اعتيادا "فلول النظام". لذلك، ذهب البعض في تونس إلى القول باندراج قانون "المصالحة الإدارية" في هذا السياق، وأن هدفه الأساس يروم إيجاد مخرج للذراع الاقتصادي للنظام السابق، وتجنيب قرابة أربعمائة رجل أعمال وقيادات إدارية سامية التعرض للمساءلة والمحاسبة، أي تمتيعهم بالإفلات من العقاب. فبالعودة إلى خطابات المعارضة المكونة من الاتحاد العام التونسي للشغل، وبعض الأحزاب الصغيرة، والمنظمات الشبيبية، والجمعيات الحقوقية والمدنية، نلمس الحيثيات الداعية إلى الرفض المبدئي لمشروع "المصالحة الإدارية"، والاعتراض عليه حتى وإن حظي بمصادقة مجلس نواب الشعب.

استند خطاب المعارضة في الدفع بعدم قبول "المصالحة الإدارية" على مصفوفة من العناصر أبرزها أن المشروع محكوم بإعتبارات سياسية، ومخالف للشرعية الدستورية والقانونية، ومتنكر لاستحقاقات الثورة وأهدافها. فالرئيس التونسي، وهو صاحب المبادرة، يروم، بحسب رأي المعارضة، تجنيب رجال الأعمال والمتنفذين في دواليب الدولة خلال النظام السابق الخضوع للمساءلة والمحاسبة، بحجة أن المعنيين بهذا القانون لم تثبت في حقهم تهم التورط في الفساد وإهدار المال العام، وأنهم لم يفعلوا أكثر من تنفيذ الأوامر من مواقع مسؤولياتهم، وأنهم كفاءات لازالت البلاد في حاجة إليهم، حيث أن رفع التهم عنهم ليسمح لهم بإعادة الارتباط بمحيطهم المهني العام والخاص، مما سيكون له الأثر الإيجابي على الاقتصاد التونسي والأداء الإداري بشكل عام. ومن زاوية أخرى، لاحظت المعارضة على أن استثناء هذه الفئة من المحاسبة والافلات من العقاب، تحت طائلة أي مبرر، سيخلق تمييزا بين الناس، ويمس مبدأ مساواة الجميع أمام القانون، ويُفضي إلى تعميق الشروخ الاجتماعية والنفسية بين التونسيين، وهو ما لا تسمح به مقتضيات وأحكام الدستور الجديد (2014)، ناهيك عن إخلاله بمبدإ المشروعية، حيث لم يكترث برأي المجلس الأعلى للقضاء، بحسبه هيئة قضائية دستورية، ولم يُتح له فرصة ممارسة اختصاصه بإبداء رأيه في الموضوع. أما الاعتبارات السياسية، فالواضح، بحسب المعارضة، أن مبادرة الرئيس بخصوص وصع قانون المصالحة الإدارية، تم التخطيط لها بأفق الانتخابات الرئاسية لعام 2019، والتشريعيات التي ستعقبها، حيث ستخدم "المصالحة" هذا الاستحقاق، وتعضد موقع رئيس الجمهورية، وحزبه "نداء تونس"، خلال هذه الانتخابات.

يُذكر أن التصويت الإيجابي لصالح "المصالحة الإدارية" حظي بتأييد "نداء تونس"، وحزب النهضة معا، وأنه جاء بأغلبية عالية جدا، كما اسلفنا الإشارة، وبمقتضى القانون أصبح نهائيا وساري المفعول.. لكن بالمقابل، وكأي قانون، يمكن الطعن فيه بعدم الدستورية، وهذا ما قام به خمسة وثلاثون نائبا، حين وقعوا على عريضة الطعن بعدم الدستورية، كما يُنتظر من "المجلس الأعلى للقضاء" أن يقول كلمته، والأهم من كل هذا تراهن المعارضة على دعم الشارع التونسي وتحركه من أجل إسقاط هذا القانون وتعطيل مفعوله.. ما النتائج المتوقعة من كل هذا؟ وهل ستنجح المعارضة في فرض الغاء قانون "المصالحة الإدارية"؟.. يصعب الإجابة بكل وثوقية عن هذه الأسئلة، لكن يمكن التفاؤل بحيوية المجتمع المدني التونسي، وقدرته على التأثير في الاتجاه الإيجابي، كما فعل في كل مراحل الانتقال السابقة،وفي صدارتها مرحلة كتابة الدستور.
التعليقات (0)