مقالات مختارة

التحرير والجرائم ضد الإنسانية هل يستويان مثلا؟

مثنى عبد الله
1300x600
1300x600
في كل مرة تُنتزع فيها مدينة عراقية من سيطرة تنظيم «الدولة»، تبرز إلى العلن أخبار ومعلومات عن انتهاكات وجرائم ضد الإنسانية، ارتكبتها القوات العراقية بمختلف صنوفها وتشكيلاتها العسكرية وشبه العسكرية. 

وفي القانون الدولي، كما في كل الأعراف الوضعية، واجب وحق للسلطات المسؤولة أن تدفع الضرر عن مواطنيها، وأن تعيد أي جزء سُلب من سيطرتها إلى السيادة الوطنية. لكن في الوقت عينه تقف بنود كثيرة في هذا القانون والاتفاقيات الدولية والأعراف السماوية والوضعية، بالضد من أية أعمال عنف تطال إنسانية الإنسان وحقه في أن تُحترم إنسانيته. 

وقد شمل هذا الجانب المجرمين والإرهابيين والجماعات المسلحة أيضا، الذين إن سقطوا في الأسر، أو تم إلقاء القبض عليهم، فإنهم يصبحون في عهدة القانون الذي يكفل لهم حقوقا معينة، وصولا إلى تجريمهم وإصدار الحكم عليهم. ولقد اشتركت جميع الوثائق القانونية الدولية في وصف الجرائم ضد الإنسانية على إنها تلك الجرائم الشديدة الخطورة، التي تتم على نطاق واسع، أو بشكل منهجي لتطال عددا كبيرا من الضحايا. 

ولو وضعنا هذا التعريف العام كمقياس على الحالة العراقية، لوجدنا أنه قد تكرر على نطاق واسع ضد سكان كل أرض تخوض فيها القوات العسكرية العراقية، والقوى المليشياوية المتحالفة معها الحرب ضد تنظيم «الدولة»، إلى الحد الذي لم يعد فيه الفعل مجرد ظاهرة أو تصرف فردي، كما يحلو للكثير من المسؤولين وبضمنهم رئيس الوزراء وصفه، ثم الوعد بأنهم سيتخذون الإجراءات القانونية بحق مرتكبيه والتعهد بعدم تكراره مستقبلا.

لقد أصبحت هذه الحوادث فعلا ممنهجا في السلوك العسكري العراقي في كل العمليات الجارية. كما في كل مرة تشير المنظمات الحقوقية الدولية إلى هذه الأفعال، وتطالب السلطات المحلية بالحد منها، في حين يتهمها العديد من أركان النظام العراقي بالتحيز وعدم الموضوعية. وقد كان البعض يعتبرها تصرفا حصريا تقوم به فصائل الحشد الشعبي فقط، لكن العمليات العسكرية التي جرت في الموصل، وفي مدن أخرى تقع على أطرافها، مثل تلعفر والحويجة وقراهما، أثبتت أن القوات النظامية التابعة للجيش العراقي ارتكبت هذه الجرائم، وأن قوات الشرطة الاتحادية هي الأخرى مارست الفعل عينه، إضافة إلى قوات الرد السريع والأجهزة الخاصة. وقد كان تصوير هذه الجرائم ونشرها على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي، يشير إلى أن الفاعلين محميون سياسيا، ومن يحصل على هذه الميزة فهو محمي قانونيا أيضا. 

ولو ذهبنا إلى تحليل اعتبارات الحماية السياسية التي تُمنح لهؤلاء، لوجدنا أن حواضنهم من أحزاب ومليشيات وفصائل مسلحة، تهدف من وراء احتضان هذا السلوك الشائن إلى تشكيل حالة من الرعب لدى عامة الناس، تقود إلى عملية ردع لكل من تسوّل له نفسه الاعتراض، أو الاحتجاج، أو شجب أية ظاهرة غير قانونية تمارسها هذه الجهات. إنه إعادة استثمار لكل الأفعال التي مارسها تنظيم «الدولة» ضد الإنسانية في المناطق التي سيطر عليها. وهي محاكاة مستنسخة لحالة بث الرعب التي مارسها التنظيم، كي تقود إلى انصياع الناس إليه بدون اعتراض. ومفهوم جدا أن تمارس المجاميع المسلحة هذه الأفعال، كي تبسط سيطرتها، لكن من غير المفهوم أن تقوم الدولة والسلطات المختصة فيها بممارسة نظرية الرعب نفسها، لإخضاع مواطنيها. مما يلقي حالة من الشك على حقيقة هذا الكيان المسمى دولة وهذه السلطات، وهل ينطبق عليهما الوصف القانوني المعرف في القوانين الدولية من عدمه.

لقد تلاشت الحدود بين مفهوم الدولة وسلطاتها، ومفهوم الجماعات المسلحة في العراق على مدى 14 عاما، بعد أن فقدت عنصرين مهمين من عناصر بقائها. الأول أن تكون هي الوحيدة المحتكرة لاستخدام القوة. وثانيا أن يكون هذا الاستخدام شرعيا. كما عجزت تماما عن إقناع مواطنيها بأنها دولتهم كي تستطيع فرض القانون. ولقد حصل تبادل أدوار في مرات كثيرة بينهما ومارست كل منهما السلوك السياسي والأمني للآخر. حيث انتهجت الدولة سلوك العصابات المسلحة في مناطق كثيرة من العراق، واستخدمت القوة المفرطة والإقصاء والتهميش واستنهاض الأحقاد. في حين قام تنظيم «الدولة» بفرض نفسه كدولة في المناطق التي سيطر عليها. وفي كلا الحالتين كان عامة الناس هم من يدفعون الثمن، لأن كلا القوتين، السلطات العراقية وتنظيم «الدولة»، استخدما كل الوسائل لإضعافهم وإذلالهم والحط من إنسانيتهم. 

لقد تعاملت السلطات العراقية مع سكان العديد من المدن على أنهم متطرفون يجب إخضاعهم بالقوة. وبينما كانت مطالب هؤلاء هي العدالة لا أكثر، كانت السلطات تعتبر عنفها ضدهم عدالة، متناسية أن عدالة المضطهدين ستكون كراهية وعصيانا وربما عنفا أيضا. ما شكل منظومة علاقات ما بين السلطات ومواطنيها أفرغت كل قوى تحقيق النظام وإنفاذ القانون من محتواها. فانتفى أي معنى لوجود القوى المسلحة والشرطة والنيابة العامة وأجهزة التحقيق، بل انتفى وجود الدولة أيضا. هذا الفعل تكرر وبغطاء قانوني منذ بدء عمليات استعادة المدن من تنظيم «الدولة»، ومازال يتكرر بوتيرة متصاعدة بعد كل استعادة لمدينة وجرعة نشوة.

إن التنظيمات المسلحة تلجأ إلى لغة الإخضاع بالعنف لأنها ليست كيانات لديها أطر قانونية متعارف عليها، على عكس الدول التي هي مجتمعات بشرية تستخدم القانون والشرعية في فرض وجودها على رعاياها، فإذا كان ما موجود اليوم في العراق يسمى دولة، فعليها الإقلاع عن كل ما يشير إلى عدم ذلك، وأن تتعامل مع مواطنيها في المدن، التي تخضع لعمليات عسكرية بهدف طرد تنظيم «الدولة»، بكل شفافية وفق أحكام القوانين العراقية والدولية، وأن تبعد القوات العسكرية عن تنصيب (نفسها مكان السلطات القانونية، فهي تلعب دور المحقق، والقاضي، والجلاد )، كما تقول مديرة قسم الشرق الأوسط في «هيومن رايتس ووتش»، في تعليقها على العمليات العسكرية الأخيرة في الحويجة، حيث تنصح الحكومة العراقية بأنه ( إذا أراد العراق أن يتميز كدولة تخضع لسلطة القانون، عليه أن يسيطر على هذه القوات المسيئة). وعليهم أن يعلموا بأن الدول لا تُبنى بسياسة الانتقام والنبش بالماضي والنفخ في الخوف المذهبي. كما أن الأمن لا يتحقق بالعسكر والمليشيات المسلحة والقبضة الحديدية وتخوين الآخرين، بل إن منظومة تحقيق الأمن بعيدة كل البعد عن هذه الوسائل.

هنا يجب الإشارة إلى أن ملاحقة التنظيمات المسلحة والتحقيق في سلوكياتها وممارساتها، حق مشروع للدولة وواجب عليها. لكن تهمة الانتماء يجب أن لا تشمل عائلة المتهم وأولاده وإخوانه وعشيرته. كما أن تهجير العوائل ومنع عودتها إلى المناطق التي كانت تسكن فيها، يشي بمحاولة التغطية على السرقات ومصادرة الأملاك الخاصة التي جرت خارج إي إطار قانوني.

القدس العربي
0
التعليقات (0)