كتاب عربي 21

عن مراجعات بلير.. والمصالحة و"تأهيل" حماس!

فراس أبو هلال
1300x600
1300x600
ما الذي حصل خلال عشرة أعوام حتى يغير توني بلير موقفه من مقاطعة حركة حماس؟ وكيف يمكن فهم تصريحاته التي أقر فيها أن القوى الإقليمية والدولية أخطأت بمقاطعة الحركة بعد فوزها في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006؟ إنها بالتأكيد ليست "صحوة ضمير" أو مراجعات فكرية من الرجل الذي مثّل الرباعية ودافع عن عقوباتها ضد حماس لثمانية أعوام!

لم تكن هذه التصريحات هي أول مبادرة من بلير تجاه الحوار مع حماس، فقد أجرى رئيس الوزراء السابق حوارات مع قيادة الحركة في الدوحة صيف عام 2015، بعد أقل من ثلاثة أشهر على مغادرته منصبه كمبعوث للرباعية الدولية. ولكن تصريحاته، مع ذلك، تمتلك هذه المرة زخما أكبر وأبعادا أخرى في ظل السياقات السياسية التي تعيشها المنطقة.

عرف بلير بحماسه وتبنيه لمشروع "السلام الاقتصادي" منذ اختياره مبعوثا للرباعية الدولية في حزيران/يونيو2007، وهو مشروع يقوم على إعطاء أولوية أكبر لتطوير الاقتصاد وبناء مؤسسات السلطة الفلسطينية وخلق حالة من "الرخاء" في مناطق السلطة، بحيث يكون هذا السلام الاقتصادي مقدمة لسلام سياسي.

ويمكن القول إن هذا المشروع يتوافق بدرجة أو بأخرى مع رؤية رئيس دولة الاحتلال الراحل شيمون بيريز التي طرحها مبكرا في كتابه "الشرق الأوسط الجديد"، وكذلك مع طروحات رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، مع اختلافات في التفاصيل هنا وهناك، وهي الرؤية التي آمن بها أيضا رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض، وعمل على تأطيرها في مشروعه المعروف ببناء الدولة عن طريق بناء المؤسسات.

لم يتمكن بلير من تحقيق رؤيته في إقامة السلام الاقتصادي كمقدمة للسلام السياسي، وأعلن استقالته من تمثيل الرباعية في أيار/مايو 2015 بعد شعوره بالإحباط بسبب صلاحياته المحدودة، بحسب مصدر مقرب منه في ذلك الوقت، ولكنه أعلن عند الاستقالة أنه سيظل يسعى بشكل شخصي "لتحقيق السلام في الشرق الأوسط وتنفيذ حل الدولتين".

ومع أن بلير لم يتمكن من تحقيق رؤية "السلام الاقتصادي" بشكل كامل لأسباب كثيرة، إلا أن ملامح هذه الرؤية بدأت بالتشكل في الضفة الغربية. فقد بدت السلطة الفلسطينية خلال السنوات الماضية وخصوصا بعد الانتفاضة الثانية "الأقصى" معنية أكثر بتحسين شروط الحياة للفلسطينيين داخل "سجنهم الكبير" بدلا من اهتمامها، وقيادة منظمة التحرير، بأصل الصراع وهو "الاحتلال". وأقيمت خلال هذه السنوات مشاريع إعمار ومدن سياحية تصلح للمناطق المستقرة وليس للمناطق المحتلة المعرضة لانتقام الاحتلال في أي لحظة بما يشي بأن قيادة السلطة عملت بوعي أو بدون وعي على بناء مناخ سياسي واقتصادي غير مستعد لثمن "الاشتباك" مع الاحتلال بما فيه الاشتباك الشعبي المدني.

وتحول كثير من مثقفي الفصائل الفلسطينية وخصوصا اليسارية منها بعد الانتفاضة للعمل في المنظمات غير الحكومية الممولة أوروبيا في دلالة على تغير أولويات فصائل منظمة التحرير. ولكن الأهم من ذلك أن السلطة تكيفت بشكل شبه كامل مع مشروع "الفلسطيني الجديد" الذي لا يدرك تماما حقيقة صراعه مع الاحتلال.

خلال السنوات التي عمل فيها بلير مبعوثا للرباعية الدولية، كانت غزة تمثل عبئا كبيرا على مشروعه، إذ لا يمكن، رغم الانقسام الجغرافي والسياسي الفلسطيني، إقامة سلام اقتصادي مستدام يقود إلى سلام سياسي في الضفة الغربية بينما تعاني غزة من ويلات الحصار ومن ثلاث حروب عدوانية شنها الاحتلال في تلك الفترة.

شكلت غزة إذن معضلة كبيرة يصعب حلها دون خروج حماس من الصورة، أو "تأهيلها" لدخول اللعبة بشروط رؤية "السلام الاقتصادي"، وقد تعاملت دولة الاحتلال والقوى الإقليمية والدولية المعادية لحماس مع هذه المعضلة من خلال ثلاث خيارات رئيسية: أولها محاولة فرض شروط الرباعية الدولية الأربعة لقبول التعامل مع حكومة حماس، والتي كانت تعني أن توافق الحركة على التخلي عن كل شعاراتها ومبادئها مقابل الدخول في لعبة أوسلو وسلام توني بلير الاقتصادي، الذي هو عمليا سلام نتنياهو، وهو ما رفضته الحركة آنذاك. أما الخيار الثاني فهو محاولة القضاء على الحركة وإضعافها عبر الحرب، وصولا للخيار الثالث وهو زيادة الحصار وويلات الحرب ومنع الإعمار أملا في إسقاطها عبر ثورة "جوع" شعبية. وباختصار شديد: إما القضاء على حماس أو "تأهيلها"، وهو ما لم يتحقق حتى الآن.

وبعد سنوات من الحصار الظالم القاتل على قطاع غزة، وبعد التغير الكبير في المحاور وحالة السيولة في المنطقة، بدأت حماس تدرك على ما يبدو أنها في أزمة حقيقية وأنها غير قادرة على الاستمرار بنفس السياسة التي اتبعتها خلال السنوات العشر الماضية.

كانت أولى تمظهرات هذا "الإدراك" هي وثيقة الحركة السياسية التي أصدرت في أيار/مايو الماضي، والتي ثبتت فيها الحركة ما كان قد أعلنه بعض قادتها في تصريحات سابقة من أنها توافق على دولة في حدود 1967 مع التأكيد على أن ذلك "لا يعني الاعتراف بإسرائيل"، إضافة إلى تجنب ذكر علاقتها مع الإخوان المسلمين كما كان ينص ميثاقها التأسيسي.

أما التمظهر الثاني والأهم فهو مبادرة الحركة أخيرا لتقديم رزمة "تنازلات" للسلطة الفلسطينية عبر الوسيط المصري لإقامة مصالحة وطنية مع حركة فتح والرئيس عباس، بعد أسابيع من فتح قنوات للحوار مع القيادي المفصول من فتح محمد دحلان.

وبمتابعة ما سرب حتى الآن من بنود لاتفاق المصالحة يمكن ملاحظة أن اللب الأساسي له هو إصلاح الوضع الاقتصادي لقطاع غزة، من خلال فتح المعابر بعد سيطرة السلطة عليها، وتحسين الخدمات الأساسية، وضمان استيعاب موظفي حماس وفتح في مؤسسات السلطة التي ستسيطر عليها حكومة التوافق الوطني، وهذه كلها بنود تصب في مصلحة تحقيق سلام اقتصادي في قطاع غزة. ومن اللافت أيضا أن خطوات المصالحة تزامنت مع مصادقة حكومة الاحتلال على سلسلة من التسهيلات الاقتصادية للقطاع، ومن ضمنها إقامة منطقة صناعية على الحدود الشرقية لقطاع غزة وبناء مشاريع لتحلية مياه البحر، والسماح لمصانع الخياطة بتصدير منتجاتها من الملابس الجاهزة بشكل مباشر للسوق الإسرائيلي للمرة الأولى منذ 12 عاما.

ولا يمكن فهم تصريحات بلير و"مراجعاته" إلا في سياق هذه المستجدات، التي أظهرت بشكل ما أن حماس باتت مهيئة أكثر لتقديم "تنازلات" في ظل إدراكها لأزمتها فلسطينيا وإقليميا ودوليا، وهو ما سيشجعه على محاولة العودة لملعب الشرق الأوسط من جديد بدعم إسرائيلي وإقليمي (مصر والإمارات) ودولي لتحقيق السلام الاقتصادي.

وفي ظل كل هذه التطورات تبقى المعضلة الأساسية أمام تحقيق مشروع السلام الاقتصادي هي أن حركة حماس لا تزال تخضع رسميا لمقاطعة سياسية من الرباعية ومن الدول الغربية الكبرى، الأمر الذي يعني أن الذي يعني ضرورة العمل على "تأهيلها" للقبول الدولي بما أن محاولات القضاء عليها تماما قد فشلت خلال السنوات العشر الماضية.

تصريحات بلير، إذن ليست مراجعات ولا صحوة ضمير، بل هي تدشين لمرحلة جديدة من "الاشتباك" السياسي مع حركة حماس لتصبح جزءا من السلام الاقتصادي، بعد أن شعرت القوى الدولية على ما يبدو أنها مؤهلة لذلك أكثر من أي وقت مضى في ظل الضعف العربي والانقسام العربي، وخسارة الحركة لتحالفاتها الرئيسية مع طهران ودمشق، وتراجع قدرة الحليفين التركي والقطري لتغطية خسارة حلف دمشق- طهران.

يبقى القول أن ما يجري الآن ليس تعبيرا عن أزمة حماس فقط، بل هي أزمة المشروع الوطني الفلسطيني وغياب التوافق العربي، ما يعني أن حل الأزمة يجب أن يبدأ فلسطينيا بإعادة المشروع الوطني الفلسطيني إلى أصله، وهو الصراع بين كيان محتل كولينيالي وبين شعب واقع تحت الاحتلال، ولكن هذا لا يمكن أن يتم إلا بتوافق الشركاء "المتشاكسين" في فلسطين لتبني مقاومة شعبية مدنية شاملة ضد الاحتلال. هل سيحدث هذا قريبا؟ لا أحد يمكن أن يعرف، لكن ما نعرفه أن الشعب الفلسطيني كان دائما هو السباق لقياداته في تغيير المعادلات الصعبة في أعقد حالات الأزمة الفلسطينية، وهو الوحيد الذي قد يجبر قياداته من جميع الفصائل مجددا على العودة إلى جادة المشروع النضالي الفلسطيني.
1
التعليقات (1)
حمزة نزال
الخميس، 19-10-2017 08:58 ص
شكرا أستاذ فراس على هذا المقال المفيد جدا ، ولكن .. - ما نعلمه من أهلنا في الضفة أن الانتعاش الاقتصادي المطلوب والموعود يستفيد منه (الحزب الحاكم) ومن ولاه من كبار الموظفين وغيرهم ، بينما الناس يعيشون في فقر مدقع ومحاصرين بالقروض البنكية لتوفير الحاجات المعيشية. - آخر فقرة في المقال فيها الخلاصة التي تتكرر كثيرا عن دور الشعب الفلسطيني وقيادته (لقياداته) في بلورة المشروع الوطني .. بصراحة وبرأيي هذا كلام نظري محض !! أي شعب سيقود وهو محاصر اقتصاديا وأمنيا وسياسيا في الضفة قبل غزة ؟؟ الأمن الفلسطيني لا يقبل قذف المحتل بالورد ، فهل تتوقع منه القبول بانتفاضة او مقاومة سلمية ولو بالحجر !! احترامي

خبر عاجل