قضايا وآراء

في أزمة الإسلاميين المغاربة

بلال التليدي
1300x600
1300x600

في مسار التنظيمات ثمة أزمات يصعب تفسيرها في سياقها اللحظي، خاصة إذا جاءت الأزمة بشكل فجائي على غير نسق طبيعي.

مثال ذلك حالة الإسلاميين بالمغرب، الذين حققوا انتصارات انتخابية وسياسية متتالية، وظل مسارهم السياسي والانتخابي في حالة تصاعد منذ سنة 2002 (42 مقعدا) إلى استحقاقات 2016 (127 مقعدا)، مرورا بانتخابات 2007 (45 مقعدا)، ثم انتخابات 2011 (125 مقعدا)، كما حافظوا لولايتين على موقعهم في قيادة التدبير الحكومي.

لكن الذي ينظر إلى هذه الانتصارات، وهذا المسار السياسي المطرد والتصاعدي، لا يكاد يفهم الأزمة الداخلية التي يمرون بها، كما لو أن الأمر يتعلق بحزب آخر تعرض لنكسة سياسية أو هزيمة انتخابية، ولم يستطع أن يشخص أسباب الهزيمة أو يتفق على الجواب السياسي للمرحلة القادمة.


والواقع، أن أزمة الإسلاميين في المغرب ليست من نسق هذه الأزمات، وإنما هي من طبيعة أخرى مناقضة، إذ يمكن للهزيمة أن تكون سببا في فك شفرة الأزمة وتجاوزها، في حين يمكن أن يعمق الانتصار السياسي الأزمة ويزيد من حدتها، إذ يصبح الموقع الجديد في ظلها، والحجم المتسع عبئا وثقلا إضافيا على التجربة.

خطوة هذه الأزمة أنها لا تظهر إلا في سياق تفاعلي، أي عندما يضطر الحزب المشارك في العملية السياسية إلى التفاعل مع قرار أو استراتيجية جديدة أنتجت في سياق التدافع السياسي ضمن شروط اللعبة، ولم يكن مهيأ لها أو كانت في داخله بعض التناقضات الكامنة التي فجرتها الدينامية التفاعلية، أو كانت في مستوى شديد أضعف قدرة القيادة على إنتاج جواب جماعي بشأنها.

هذا بالتحديد ما وقع لإسلاميي المغرب، الذين حققوا في استحقاقات 2015 و 2016 إنجازا سياسيا تاريخيا فاجأ بعض مراكز القوى في الدولة كما فاجأ بعض الأطراف الخارجية، ولم يستطيعوا أن يدبروا مرحلة ما بعد إعفاء عبد الإله بنكيران إلا ما ارتبط بسياق الضرورة، أي التفاعل الإيجابي مع قرار الملك تعيين الدكتور سعد الدين العثماني رئيسا جديدا للحكومة، والحرص على تحصين موقعه رئاسة الحكومة.

عنوان الأزمة في جوهره وعمقه سياسي، لكن المؤسف أنه لا يظهر منه إلا شكله التنظيمي، أي الخلاف حول إزاحة العوائق القانونية التي تمنع عبد الإله بنكيران من ولاية ثالثة داخل الحزب، إذ تحول التباين الشديد في الموقف حول تقدير الجواب السياسي للمرحلة إلى معركة تنظيمية تستعيد بعض معارك الإسلاميين في المشرق حول شرعية الأشخاص وشرعية المؤسسات، أو ما يعرف بالمشيخة، فعجزت القيادة بشكل مطلق أن تخلق أجواء النقاش السياسي للتفاهم على الحد الأدنى المشترك، واعتبرت أن الجواب لا يمكن إلا أن يكون تنظيميا، أي التصويت الديمقراطي لقيادة جديدة تتحمل إنتاج جوابها السياسي، أما ما قبل ذلك فمرحلة التيه السياسي.

يبدو هذا الحل في الظاهر براغماتيا، يحرص على ضمان وحدة الحزب وتماسك صفه وتجنيبه تداعيات الخلاف السياسي الحاد، غير أن هذه الوصفة التي ترهن مستقبل الحزب بآلية ديمقراطية، تسببت في وقوع بعض المحظور، إذ تحول النقاش التنظيمي حول تعديل المادة 16 من القانون الأساسي لحزب العدالة والتنمية إلى قوة جذب وتقاطب حادة ربما كانت تداعيات الخلاف السياسي ستكون أهون لو تداعى الحزب للحوار السياسي الداخلي.

 

بل الخطورة، أن الاستسلام لهذه الوصفة التنظيمية، بالإضافة إلى كونه خلق تقاطبا حادا حول الأشخاص، فقد بدأ يسمم العلاقات النفسية بين القيادات التاريخية المؤسسة، مما قد يكون له بعض الأثر على مستقبل المؤتمر التاسع المرتقب انعقاده في الأسبوع الثاني من ديسمبر المقبل.

والمفارقة، أن الخلاف السياسي الداخلي ليس من الحجم الذي لا يمكن الاتفاق بشأنه على الحد الأدنى المشترك، فالجميع داخل الحزب يقر بأن المغرب يسير في منحى ديمقراطي تراجعي، وأن الدولة دبرت أزمتها على حساب خلق تناقضات داخلية في الحزب، وأن الحزب مستهدف سياسيا في وحدته وتماسكه ومستقبله، وأن الحزب ينبغي أن يبقى داخل الحكومة وفي موقع قيادتها، وأنه لا بد من إسناده سياسيا، وأن السياق السياسي القادم يسير في اتجاه البحث عن خيارات لإضعاف العدالة والتنمية ومنع تصدره للمشهد السياسي مرة ثالثة.

 

الخلاف هو حول طبيعة الجواب أو ما العمل؟

 

هل يتجه الحزب لمجرد الحفاظ على مكتسباته أو مراكمتها؟ وهل يتجه لتصحيح المسار الديمقراطي أو مجرد استثماره هوامش المسار السياسي الحالي؟ هل يمايز بين مفهوم الثقة ومفهوم الشراكة، فيزيد من جرعة جرأته لمصارحة الدولة، أم تغطي الثقة على مفهوم الشراكة ومضمونها التعاقدي، ويتفاعل إيجابا مع كل المبادرات حتى تلك التي يدرك أنها تلف الحبل على عنقه أو تلتف على مكتسبات الإصلاح التي حققها في التجربة السابقة أو حتى الحالية؟ هل يكتفي بالتفاعل مع التحالفات التي طلب منه أن يدخل فيها، أم يستمر في البحث عن تحالفات استراتيجية على قاعدة الديمقراطية كما كان يفعل في المرحلة السابقة؟

لحد الآن لا وجود لأي نقاش سياسي مفصل في هذه العناوين، وإنما هناك تقديرات متباينة، بعضها يحتج بإرادة الدولة، وبعضها يحتج بالسياق الدولي والإقليمي المعاكس للديمقراطية ولتجربة إدماج الإسلاميين في العملية السياسية، فيما بعضها الآخر يدخل في سياق مقارن ليبرر أن ما يحدث اليوم من سلوك سياسي لهذه الحكومة لا يختلف في شيء عن السلوك السياسي للحكومة السابقة.

ثمة نقاط اتفاق كثيرة للأسف لم يستطع الإسلاميون في المغرب أن يجعلوها منطلقا للبحث عن الحد الأدنى المشترك، منها على وجه الخصوص الدفاع عن الثوابت وفي مقدمتها الملكية، وتعزيز الثقة معها، وتجنب أي اصطدام معها، والتمسك بالخيارات الدستورية، وبشكل خاص ما يرتبط بالخيار الديمقراطي، فهذان المعطيان، يمكن أن يحررا بعض مواطن الخلاف في تركيب، ينطلق من لغة الوضوح مع الدولة: وضوح يحيل إلى الجدل المتلازم بين الملكية والإصلاح والاستقرار، وأن خيارات إضعاف المسار الديمقراطي، تمس بالاستقرار وتمس بالملكية، وأن الحزب يدافع بكل قوة عن الديمقراطية بهذه الخلفية الدستورية.

ما عدا ذلك من القضايا المرتبطة بإرادة الدولة أو المناخ الدولي والإقليمي فمجرد تفاصيل تحكم حجم الإقدام والإحجام في مراكمة المكتسبات، أما الخيار المقابل، الذي يحدد سلفا خطه بمسايرة التراجع أينما وصلت مستوياته بشرط الحفاظ الآني على موقع الحزب داخل الحكومة، فمأزقه أنه يخلي الطريق أمام أي فعل مقاوم لهذه التراجعات، ويسمح بتعميم قناعات قدرية أنه بإمكان الدولة فعل أي شيء إن اتجهت في هذا المسار أو ذاك.


في مسار الفعل السياسي لحزب العدالة والتنمية دروس جد مهمة ، فالدولة ليست متجانسة، وليس
كل ما تريده جهات في الدولة تنفذه، وليس كل مقاومة تلقى بالضرورة المسار الذي تلقاه حركات أخرى في بلدان قريبة أوة بعيدة، كما أن المحيط الدولي والإقليمي، على فرض أنه معاكس للديمقراطية والإسلاميين، وهو ليس كذلك بهذا الإطلاق، لا يبقى ثابتا على حال، وأن الانتصارات الحقيقية التي حققها حزب العدالة والتنمية لم تحصل حتى حقق المزاوجة الفعالة بين خيار الإصلاح ومقاومة التحكم، وبين التشبث بالملكية واعتبار الاستقرار خطا أحمر.

0
التعليقات (0)