كتاب عربي 21

ضرورات استراتيجية: الانقسام التركي حول المسألة الكردية

بشير نافع
1300x600
1300x600

مع اندلاع أزمة الاستفتاء في كردستان العراق، نشر د. أحمد داوود أوغلو، رئيس الحكومة التركية السابق، مقترحا من عدة نقاط لتفادي التصعيد والصدام في كركوك، عندما بدا أن الصراع على المدينة/ المحافظة قد يشعل الحرب بين بغداد والإقليم الكردي. 


ارتكز مقترح داوود أوغلو إلى تجربته في التعامل مسألة كركوك، منذ توليه وزارة الخارجية التركية في 2009 ـ 2014، مؤكدا على ضرورة اعتراف كافة الأطراف العراقية بوضع المدينة الخاص، وحقيقة أنها لا تتعلق بهوية محددة، بل بالتركمان والعرب والأكراد معا. لم يكن مقترح داوود أوغلو غريبا؛ فالرئيس العراقي السابق، الكردي، جلال طالباني، كان تقدم باقتراح مشابه، يقضي بتقاسم ثلاثي متعادل لمجلس المحافظة بين المجموعات الإثنية الثلاث، مع منح عدد محدد من المقاعد للجماعات السكانية الأخرى.

بيد أن المزاج السياسي في أنقرة لم يكن مواتيا للحديث عن السلم والتفاوض. كانت تركيا، كما إيران والعراق والولايات المتحدة، دعت أربيل إلى التخلي عن استفتاء تقرير المصير، قبل عقده بالفعل في 25 أيلول/سبتمبر؛ وربما حسبت أنقرة أن لها من الدالة على الإقليم الكردي، وعلى رئيسه، تؤهلها لتوقع استجابة لدعوتها.

دعمت تركيا الإقليم الكردي في أكثر اللحظات صعوبة، منذ اكتسب وضعه الدستوري في 2005، بما في ذلك تسهيل تصدير النفط، تقديم القروض المالية، الانفتاح الكامل على السوق الإقليم وحاجاته، وحماية بارزاني نفسه من مؤامرات إطاحته. ولكن السيد بارزاني، كما هو معروف، تجاهل الدعوة التركية، كما تجاهل دعوات إلغاء الاستفتاء وتأجيله، التي صدرت من كافة الجهات الأخرى. وهذا ما ولد ردود فعل تركية بالغة الحدة، يصعب فصل الشخصي فيها عن السياسي والاستراتيجي.

 

لم تنظر تركيا لمشروع استقلال الإقليم وتقسيم العراق باعتباره مصدر تهديد للأمن القومي والإقليمي، وحسب، بل وشعرت بأن بارزاني لا يستحق ما استثمرته في قيادته للإقليم، وأنه خان الثقة وتنكر لما قدمته تركيا له طوال سنوات.

لم تتردد تركيا، ما إن أعلنت بغداد وقف الرحلات الدولية إلى مطار أربيل، في حظر الحركة الجوية كافة بين الإقليم والمدن التركية؛ كما أعلنت دعمها الكامل لبغداد وأية إجراءات تتخذها للحفاظ على وحدة العراق. تدرك تركيا، بالطبع، أن إيران هي الراعي الإقليمي الرئيسي لبغداد وحكومتها، وهي التي ضبطت إيقاع التصعيد العراقي ضد الإقليم، منذ عقد الاستفتاء. وكان واضحا، في سلسلة من الاتصالات والزيارات المتبادلة، أن أنقرة تتفق بلا تحفظ مع طهران على إيقاع الهزيمة بحكومة الإقليم وفرض الاستسلام على قيادته. 

في ظل هكذا مناخ، لم يكن متوقعا أن يستقبل مقترح داوود أوغلو في أنقرة بأية درجة من الحماس. الحقيقة، أن أنقرة نظرت بصورة إيجابية إلى تقدم القوات العراقية الاتحادية للسيطرة على كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها بين بغداد وأربيل، منذ صباح 16 تشرين الأول/أكتوبر، وخلال الأيام القليلة التالية. وبدا أن مقترح داوود أوغلو جرى تجاهله، لولا أن الرجل وجد نفسه هدفا لهجوم بالغ الحدة، مباشرة بعد سيطرة القوات العراقية على كركوك.

 

لم يأت الهجوم من الجهات الرسمية، بل من رئيس حزب الحركة القومية، السيد دولت بهتشلي، المعارض السابق، والحليف اللاحق لحكومة العدالة والتنمية. موجها الحديث إلى داوود أوغلو، قال السيد بهتشلي، بلغة لا تحتمل التأويل، «عندما يتفق كل من الرئيس ورئيس الحكومة والقوات المسلحة التركية، فمن التخيل والجهل أن يقوم رئيس حكومة سابق بإصدار تصريحات ضد سياسة الدولة، تستهين بحقوق التركمان. من أنت؟ بأي جرأة تتحدث؟ أنت تخدم اللوبي المؤيد لرئيس الإقليم (مسعود بارزاني)».

يرى السيد بهتشلي نفسه الحارس لميراث القومية التركية والمسؤول عن الدفاع عن ميراث الأتراك في العالم. ولكن اندفاع بهتشلي للهجوم على واحد من أبرز دارسي تاريخ المشرق وخارطته السياسية، وزير الخارجية ورئيس الحكومة السابق، لم يصدر من حدته القومية، وحسب، بل وعن شعوره بالانسجام مع سياسات الحكومة التركية وموقفها من الأزمة الكردية العراقية.

 

لم يعدم داوود أوغلو الرد على بهتشلي، وذكره في سلسلة تغريدات بهجومه السابق على حكومة العدالة والتنمية عندما كشفت عناصر من الجندرمة الموالية لتنظيم غولن عن شحنة سلاح، أرسلتها أنقرة لتركمان سوريا، وبتخاذله في الدفاع عن أتراك القرم، عندما قامت روسيا بضم الإقليم الأوكراني. 

مهما كان الأمر، لم يعد من السهل التغطية على انقسام الطبقة السياسية التركية حول الأزمة الكردية. فحتى عندما كان بهتشلي يطلق هجومه على داوود أوغلو، كانت الأزمة قد تجاوزت مسألة كركوك والسيادة عليها. ليس ثمة خلاف، لا داخل تركيا ولا خارجها، ولا حتى في أوساط العقلاء من الكرد، أن مسعود بارزاني تصرف بقدر كبير من الغباء وأن قرار الاستفتاء بني على حسابات خاطئة وهشة.

 

ما قام به بارزاني أقرب إلى اختيار ابن طبقة وسطى، سئم من رفاه العيش، القيام بعملية انتحارية. وإلى جانب حسابات أربيل الخاطئة، لم يظهر السياسيون الكرد، لا في أربيل ولا السليمانية، أنهم مؤهلون لقيادة مشروع كبير بحجم تأسيس دولة قومية مستقلة. مؤسسو الدول لا يغرقون في الفساد وصراع النفوذ والثروة، لا يتصرفون كرؤساء عشائر، يحكمون بعصبية العائلات والأتباع المطيعين، ولا يتصرفون مع شركائهم في الوطن بشوفينية مرضية، تعمل على التطهير العرقي.

بيد أن المسألة، يقول المعارضون لسياسة عقاب بارزاني والقطيعة معه في أنقرة، تجاوزت كركوك، وحتى استفتاء تقرير المصير. دولة كردية مستقلة لن تقوم في شمال العراق، لا بضم المناطق المتنازع عليها ولا ضمن حدود إقليم الحكم الذاتي المعترف بها. لم يمت الاستفتاء وحسب، بل وأقيمت جنازته، أيضا.

 

من جهة أخرى، سيطرت قوات بغداد وحشدها الشعبي، مدعومة من إيران، على كافة المناطق المتنازع عليها، على الشريط الحدودي مع تركيا، وباتت تهدد وجود الإقليم الكردي ذاته؛ بينما ترتفع الأصوات في طهران وبغداد لإصدار أوامر اعتقال لبارزاني وقادة البيشمركة، وتشجيع الموالين لأسرة طالباني في السليمانية على الانشقاق عن أربيل وتشكيل إقليمهم الخاص في حلبجة والسليمانية.

إن استمرت واشنطن في تأييدها للعبادي، وتركيا في توافقها مع إيران على إخضاع أربيل، فربما لن يكون أمام بارزاني سوى الانتقال إلى المعسكر الإيراني. 
قبض حلفاء إيران منذ ما بعد الغزو والاحتلال على مقاليد الحكم والدولة، ولكنهم لم يسيطروا على العراق كله مطلقا. 

بصورة أو أخرى، حافظت تركيا على نفوذ ملموس في أربيل وبين السنة العرب والتركمان. إخضاع بارزاني لا يعني إخضاع الإقليم الكردي فقط، بل وشمال العراق برمته. وبذلك، تصبح إيران القوة المسيطرة بالفعل على العراق كله، كما على سوريا. ولا يجب أن يكون هناك شك في أن المراهنة العربية والتركية والأمريكية على وطنية العبادي واستقلاله ليست سوى وهم. العبادي لن يستطيع طرد إيران من العراق، بل إيران هي من يستطيع إطاحته، متى شاءت. وهذا ما يدفع معارضي سياسة القطيعة مع بارزاني في أنقرة إلى دق ناقوس الخطر.


 كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

 

4
التعليقات (4)
حسان خليل
الجمعة، 27-10-2017 10:12 ص
لا اعتقد انه يجب تفتيت ثلاث دول و عمليات تهجير و مجازر متبادله للسكان من اجل اقامه دوله كرديه ستكون اسرائيل اخرى في تلك المنطقه، لا الموقع و لا الدموغرافيا و لا حتى التطور الديموقراطي، فالبرزاني يتصرف كملك متوج هو واسرته في الاقليم ان اي انقسام هو شيء مكروه و يجب السعي الى دوله مواطنه لا للتقسيم انه الغباء بعينه كل دوله في العالم قابله للتقسيم وحتى لو كان من اجل فريقي كره قدم، فيجب استعمال العقل وليس القبليه و الشوفينيه البغيضه واقتراح اوغلو ليس اكثر من ان يجد موقع قدم في كركوك باسم اتراكها و الاستفاده من نفطها شيء على شاكله قبرص تركيه في العراق وهذه السياسه الانتهازيه جرت الى تدمير سوريا و لو استمرت لطالت تركيا نفسها
كركوكى
الخميس، 26-10-2017 08:06 م
سوف نرجع كل اراظينا من ظمنها كركوك ونعلن دولتنا منها شاءت ام لا تركيا و ايران وعراق . لا يهم اذا كانت غدا او بعد غد ولكن مادما هناك كردي واحد على قيد حياه.
طارق الحضرمي
الخميس، 26-10-2017 04:04 م
إن تقييم بارزاني و أركان حكمه للوضع الجديد للخروج بأقل خسائر ممكنة ضرورة لا غنى عنها, دونها الفناء. إن تركيا براغماتية و ذات صدر أرحب و أوسع مما يعتقده البرزاني بعد ارتكاب حماقته الغير محسوبة و هنا اختلف مع الكاتب القدير بأن البرزاني ليس أمامه إلا إيران فتركيا هي الخيار الوحيد فنوع من الوحدة أو التنسيق مع التركمان و السنة هو الطريق إلى أنقرة
طارق الحضرمي
الخميس، 26-10-2017 03:53 م
كلام سليم يحتاج إلى إضافات و تفاصيل ليتم تأطير وضع السنة في العراق بكافة قومياتهم إذ أن حلم الكرد تم ذبحه من الوريد للوريد. و لا معنى ابدا للبكاء على اللبن المسكوب بل التحرك للامام. و هنا لا أعني تأطير الوضع الطائفي برمته بل نمط من التحرك السني المحسوب الهادئ و ما زال في الإقليم بقية و الفرصة لن تتكرر, و هنا الحديث ليس فيه شماتة على الكرد لكن تذكير بأنهم كانوا واهمين عندما ركنوا على الشيعة مقابل بيع سنة العراق للحصول على دولتهم و أكرر من الغباء السياسي البكاء على اللبن المسكوب

خبر عاجل