قضايا وآراء

"حزب" الإعلام

يحيى اليحياوي
1300x600
1300x600

في معظم بلدان العالم بما فيها العالم العربي، ثمة إعلام للأحزاب قائم، ينطق باسمها، يشيع لمنظومتها شكلا وفي العقيدة، يساير حركة زعمائها في الترحال وفي منطوقهم، ولا يرى من قيمة اعتبارية تذكر لإعلام آخر، معارض له أو منافس.. إعلام يتماهى مع حزبه فيدعيا معا "فكرا واحدا"؛ لا يأتيه الباطل لا من أمامه ولا من خلفه.

وثمة إعلام قائم دونما وجود حزب له معلن. لم يضع في إنشائه "دفتر تحملات سياسيا"، وليس مجبرا على تخصيص حيز لنشاط الزعيم، ولا بوضع صورته بالألوان في صفحة الاستهلال. هو إعلام بلا حزب (أو هكذا يبدو الأمر للوهلة الأولى) في مقابل إعلام حزبي، متحزب، يتحدد وجوده بوجود الحزب، وينتهي بانتهائه.

هما نوعان من الإعلام لا تحكمهما نفس "المرجعيات"، ولا لهما نفس التطلعات والغايات:

- فإعلام الحزب هو صوت الحزب الذي لا يعلو فوقه صوت.. هو صورة طبق الأصل (أو يكاد) لفعل الحزب وتفاعله، لا يزيغ عنها قيد أنملة، أو ينوء عن ضرورة إشاعتها في منخرطيه وفي غيرهم، في حين أن حزب الإعلام ليس من المفروض فيه أن يحتكم إلى منظومة سياسية ذات خلفية إيديولوجية، أو إلى سلوك جماعي تفرضه الأغلبية، وليس مطالبا، فضلا عن ذلك، بالخضوع لتوجيهات الزعيم أو "لحسابات المرحلة".

 

 

إعلام الحزب تحكمه "ثقافة الانضباط"، وطقوس التضامن الحزبي، في حين أن حزب الإعلام ليس محكوما بذات الثقافة، ولا هو مطالب بإعمال مبدأ الانضباط

- وإعلام الحزب (أعني صحفييه كما منخرطيه) تحكمه "ثقافة الانضباط"، وطقوس التضامن الحزبي، في حين أن حزب الإعلام ليس محكوما بذات الثقافة، ولا هو مطالب بإعمال مبدأ الانضباط.

- وإعلام الحزب إعلام حددت (وتحدد له باستمرار) خطوط حمراء، لا مجال لإعمال الاجتهاد لمعرفتها، في حين أن حزب الإعلام لا يرى حرجا في محاذاتها، والتعرض لها، وتجاوزها أحيانا، وإن بالتلميح المبطن. بالتالي، فإعلام الحزب هو إعلام مؤسسات قائمة (حتى وإن لم تكن فاعلة)، في حين أن حزب الإعلام لا عناوين "لمؤسساته" تذكر... وهكذا.

 

 

نعني تلك الكتابات الصحفية التي لا تشفي المنابر الحزبية غليلها، أو تراها مقصرة في وظيفتها


حزب الإعلام، الذي نقصد في هذا المقام، لا نعني به فقط إعلام من لا حزب له، ولا نعني به إعلام مجموعة صحفيين لم تستهوهم "الوظيفة" الحزبية للإعلام. إننا نعني به تلك الكتابات الصحفية التي لا تشفي المنابر الحزبية غليلها، أو تراها مقصرة في وظيفتها، أو تعتبرها (في الحد الأقصى) متواطئة في تسويف الواقع، وتدجين المواطن، والتجاوز على حاله ومستقبله.

هو، على هذا الأساس، "حزب" رأي ليس من الضروري أن تتقاسم أفكاره صحف الأحزاب. وهو "حزب" لا يستهجن ذات الصحف بقدر ما يطالب بضرورة أن يكون لها حزب خاص، يكون الاحتكام فيه لا إلى منظومة مرجعية قارة، بل إلى "أخلاقيات في المهنة" تحكم الأداء وتحاسب على العطاء.

هو "حزب" لا يتطلع للسلطة أو يعمل بجهة بلوغها، بقدر ما يعمل على أن يكون سلطة مضادة (وإلى ما لا نهاية بحكم طبيعته) كائنة ما تكن السلطة القائمة أو "الحزب القائد".

وهو "حزب" لا يدعي امتلاكه لمشروع مجتمعي، بقدر ما يطالب بضرورة إقامته أو المساهمة في صياغته. وهو، فوق كل هذا وذاك، "حزب" لا يتطلع لتكوين إطار أو تأسيس هيئة سياسية، بقدر ما يتطلع لبناء مشروع اجتماعي وثقافي، تكون السياسة بصلبه عامل تجنيد وتأطير، لا أداة احتكار للسلطة أو ممارسة للعنف من خلالها.

ليس لـ"حزب" الإعلام منخرطون بالبطاقات، ولا مناضلون بالهوية، ولا هم ممثلون محليون بمدن أو بمحافظات. قد يكونون كذلك، لكن هم أيضا صحفيون فقهوا الإعلام الحزبي، ومثقفون "عضويون"، وأصحاب أقلام مستقلة، ومروجو رأي وأفكار.. هم متعاطفون مع الإعلام تعاطف المتحزب مع حزبه. هم ليسوا بالضرورة كلمة الحزب، بقدر ما هم (أو هكذا يدعون) حزب الكلمة.. لا اعتبار يذكر فوقها أو من خلالها (أو هكذا المفروض).

بالتالي، فإذا كان لنا أن نسلم بهذا، فلن يتعذر علينا التسليم بأن ذات "الحزب" لا يكترث كثيرا بما يصبو إليه الصحفي (المهووس بالمهنية والعملية، وضبط الشكليات الصحفية)، بقدر ما تهمه الآراء والأفكار، ويحكمه منطق نسبة القراءة.

 

 

"حزب" الإعلام لا ينحصر فقط في الإعلام غير المتحزب الذي غالبا ما تتعاطاه صحافة لا تنطق باسم هذا الحزب أو ذاك، بل يتعدى الأمر ذلك إلى أفراد كانوا متحزبين إلى حين

وعلى هذا الأساس، فـ"حزب" الإعلام لا ينحصر فقط في الإعلام غير المتحزب (حتى وإن كان ذا طبيعة سياسية مضمرة)، الذي غالبا ما تتعاطاه صحافة لا تنطق باسم هذا الحزب أو ذاك، بل يتعدى الأمر ذلك إلى أفراد (ولربما إلى جماعات) كانوا متحزبين إلى حين، لكنهم ضاقوا بالتحزب الضيق (ولقوا في الصحافة متنفسا لاجتهادهم)، أو انشقوا جملة وتفصيلا عن أحزاب قائمة، ولم يجدوا لهم بعد نقطة وصول، أو انصرفوا نهائيا عما يعتبرونه متاهات الحزب والتحزب.

ولهذا السبب (وبالتأكيد لغيره)، نرى أن العديد من "أقلام" الأحزاب قد انجذبت إلى "حزب القلم"، تعبر به ومن خلاله؛ عما لم يكن متاحا لها في السابق.. داخل الحزب أعني.

ولما أصبحت ظاهرة الانشقاقات الحزبية بالعديد من الدول (وضمنها بالتحديد الدول العربية) هي القاعدة، شأنها في ذلك شأن إنشاء الحزب أو حله، فإنه يبدو من الطبيعي أن "يتزايد الطلب" على ما نسميه هنا بـ"حزب الإعلام"، إذ أضحى هذا الأخير ملجأ "المنشق"، كما ملجأ الذي لم يتسن له بعد ولوج حزب وهكذا.

 

 

لما أصبحت ظاهرة الانشقاقات الحزبية بالعديد من الدول هي القاعدة، فإنه يبدو من الطبيعي أن "يتزايد الطلب" على ما نسميه هنا بـ"حزب الإعلام"

ولئن كان من غير المتعذر على المرء تحديد هؤلاء بالاسم والصفة بهذا المنبر، كما بذاك، فإنه من غير الهين سبر أغوارهم لمعرفة نواياهم وخباياهم. لا يروم التلميح هنا فقط "مجموعة" أقلام تكتب بمنابر "مستقلة" أو تدعي الاستقلالية، وتسعى لكسب مشروعية الخطاب، لشرعنة الممارسة فيما بعد (تكوين حزب أقصد تحديدا)، ولكن أيضا "لأقلام" تدعي النزاهة في القول، لكنها لا تحتكم إليها في الفعل.

ليس غريبا، من هنا أن نقرأ بهذا "الحزب" لأقلام منشقة، غاضبة، قد لا يهمها كثيرا من يقرأ بقدر ما يهمها ما تكتب. وليس غريبا كذلك أن نستشف من هذا النص أو ذاك، أن صاحبه (المتحزب) أضحى يضيق بصحافة حزبه وأقلام رفاقه. كما أنه ليس من الغرابة في شيء أن يقرأ المرء بين الفينة والأخرى؛ آراء لعضو بهذا الحزب أو ذاك، يوحي بأن ذات الحزب على وشك الانفجار، أو تقوم عليه لوبيات، أو تتحكم فيه مصالح دونه ودونها الانفجار، وفي أخف الأحوال الانشقاق.

هل بمقدور هذه الأقلام أن تتخلص من معطف الحزب؟ من المستبعد حقا ذلك؛ لأن "حزب" الإعلام لا يعبر عن رأي حزب.. إنه يعبر عن وظيفته وعن تطلعه للاستقلالية والمصداقية..

 

التعليقات (0)

خبر عاجل