مقالات مختارة

مالك بن نبي.. و"الشاورما"!

عبد الناصر بن عيسى
1300x600
1300x600

الشغف المُزمن لزوّار معرض الكتاب الدولي، المنقضي منذ بضعة أيام، بكتب تفسير الأحلام وكيفية صفد الجن ومنعه من اغتصاب النساء وإبطال السحر والحصانة من عين الحسود، لم تعد تخفى على أحد، ولكن انهيار بورصة الكتاب الحقيقي، معنويا وماديا، هي التي صارت توجع، ما بقي من مثقفين في الجزائر.

فعندما يبلغ سعر كتاب عن شروط النهضة أو مشكلة الأفكار، وهو عبارة عن عصارة اجتهاد دام أكثر من نصف قرن، من مفكر العصر مالك بن نبي، "المنتَج" الجزائري الخالص، الذي أسهم في بناء نهضة ماليزيا وتركيا بأفكاره، إلى حدود مائتي دينار، ولا يجد من يشتريه، وعندما يبلغ سعر "الشاورما" الشامية أو "البيتزا" الإيطالية أو "الهامبورغر" الأمريكي أو الحلوى الفرنسية، في المعرض نفسه، ثمانمائة دينار، وتجد من يقف في الطابور لأجل اقتنائها قبل التهامها، ندرك أننا نحن من حوّلنا أعيادنا الدينية الخاصة بالصفح والتسامح، إلى محافل للتنابز والتنافر، وجامعاتنا التي يقال إنها مخصصة للعلم والتكنولوجيا، إلى ملتقيات للغرام ومضيعة للوقت، ومناسباتنا السياسية إلى "كرنفالات" للتهريج، ومعارضنا الثقافية والعلمية المخصصة للعقل، إلى مطاعم لالتهام ما يملأ البطن، مع سبق الإصرار والترصد.

أحيانا نجد حرجا لطلب الاعتذار من المفكر مالك بن نبي الذي رحل عنا منذ أربع وأربعين سنة، بل ونجد حرجا حتى في الاعتذار إلى مبتكري أكلات "الشاورما والبيتزا والهامبورغر"، لأنهم قدموا هذه الوجبات للمطاعم والبطون، وليس لمعارض الكتب والعقول، ولكن ما يؤسف هو أننا لا نجد حرجا في التزام الصمت أمام هذا التيار الجارف من الرداءة، الذي جعلنا نمزج بين العقل والبطن والفكر والشهية، حتى صار معرض دولي للكتاب يبيع أطنانا من اللحوم الحمراء والدجاج، ولا يبيع قطرة حبر، من عصارة أفكار أحد صنّاع الحضارة من أبناء الجزائر، في عز أزمتنا الفكرية والأخلاقية، ونحن لا نتحدث هنا عن موضع كتب مشكلات الأفكار وشروط النهضة والظاهرة القرآنية في الأسواق الشعبية أو المطاعم الخفيفة.

قد يبدو هذا الكلام المؤلم، جلدا مبالغا فيه للذات، أو تقديما لتشخيص حالة من دون دواء ولا علاج، أو اجترارا لما يعرفه "بعض" الناس عن "غالبية" الناس، أو ربما صرخة في واد، وقد يتبادر إلى الأذهان أن التشخيص ما عادت منه فائدة، بعد أن بلغت الحالة درجة الوفاة "الإكلينيكية"، ولكن الروح مازالت تنبض، وسيكون من الخيانة أن نترك أفكار كبارنا تُمضغ مع قطع اللحم المفروم والجبن والهريسة، بعد أن طالت الأيادي الملوثة تاريخ كفاح الجزائريين، ووصل إلى قمة المعاهد والجامعات ودور الثقافة من لا علاقة لهم بالعلم، ولا نقول من لصوص الشهادات العليا.

عذرا مالك، فقد سقط بناؤك الشامخ، الذي ارتضيته لنا بقطعة "شاورما" في معقل العلم والكتاب. عذرا لـ"مخترع" الهامبورغر، فنحن نعلم بأن لـ"مقال" وجبتك "مقام" المطاعم و"الفاست فود". عذرا للاعتذار، فقد صرنا في كل زاوية وخطوة وشهقة وزفير... نعتذر!

 

الشروق الجزائرية

0
التعليقات (0)

خبر عاجل