قضايا وآراء

العدالة الاجتماعية والنظام الاقتصادي المنشود

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600

هل يمكن تخيل بشاعة عالم يبيت فيه طفل جائعا لأن والده لا يملك ثمن وجبة طعام؟ وهل يمكن تخيل بشاعة عالم يموت فيه مريض مع القدرة على إنقاذه لأنه لا يملك ثمن العلاج؟ وهل يمكن تخيل فساد عالم يحرم فيه طالب نابغة من استكمال دراسته فينفع نفسه ووطنه لأنه لا يملك دفع تكاليف الجامعة؟ وهل يمكن تخيل مدى اختلال العدالة في عالم يحوز فيه أفراد قلائل يمكن أن تقلهم حافلة واحدة أكثر من نصف ثروات الأرض؟

ثمة مبرر واه يستند إليه الجشع الرأسمالي في تبرير اختلال العدالة، وهو أن الدنيا حظوظ، وأن جمع الثروات محصل ذكاء أصحابه، وأن من يجتهد ويسعى ينال نتيجة سعيه، وأن هؤلاء الفقراء كسالى ولو جدّوا لوجدوا. ويصطف مع هذا الفريق أصحاب النسخة الرأسمالية من التدين؛ الذين يبررون سوء توزيع الثروة بأن الله قال: "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا".. فهل تريدون الاعتراض على مشيئة الله؟! وبذلك يتعاضد تحالف شرير بين أصحاب سلطة المال وأصحاب سلطة الدين؛ فيتفقون معا على إدامة اختلال العدل، وعلى تغييب الشعوب وإماتة حسها الطبيعي بالغضب من مصادرة حقوقها.

 

الحريات التي تستند إليها الفلسفة الرأسمالية استعملت في تقويض المعنى الحقيقي للحرية


تقوم الرؤية الرأسمالية على أساس إطلاق الحرية الاقتصادية، وتفترض أن السوق سيعدل نفسه بنفسه دون حاجة إلى تنظيم من الدولة. لكن التجربة أثبتت أن هذا التوجه يقود إلى زيادة الأغنياء غنى وزيادة الفقراء فقراً، فالأغنياء وحدهم القادرون على الاستفادة من حرية السوق في مراكمة ثرواتهم. والحريات التي تستند إليها الفلسفة الرأسمالية استعملت في تقويض المعنى الحقيقي للحرية، إذ إن الحرية تعني أيضا أن يعيش الإنسان حرا من الخوف ومن العوز، كما تنص مواثيق الأمم المتحدة، لكن أنى لمن لا يجد قوت يومه ويتهدد الخطر مستقبله ولا يشعر بالأمن والضمان الاجتماعي؛ أن يكون قادرا على عيش حياته بحرية؟ بل إنه لن يستطيع ممارسة حقه في الحرية السياسية؛ لأن من يملك الثروة يملك النفوذ، ويستطيع تشكيل مراكز نفوذ تمارس الابتزاز السياسي لتوجيه القرار في الوجهة التي تخدم مصالح أصحاب الثروات، وبإمكانه التأثير على نتائج الانتخابات بسلطة تدخله المالي.

مبدأ الربح الذي تستد إليه الرؤية الرأسمالية، بمعزل عن المسؤولية الاجتماعية، أسّس لعالم وحشي يلتهم فيه القوي الضعيف ويستعبده. وإذا كنا نتفق على أهمية حافز الربح في تشجيع الإنتاج وفي مراعاة الفروق الفردية بين الناس، وهذا موطن اختلاف مع الرؤية الاشتراكية التي تحاول إذابة أي فروق طبيعية بين أبناء المجتمع، إلا أن الربح يجب ألا يكون المرتكز الوحيد لفلسفة الاقتصاد، بل ينبغي إعادة صياغة الأهداف الاقتصادية لتمتزج بالاعتبارات الأخلاقية والتضامن الاجتماعي ومصالح كل الأفراد.

 ينبغي أن تتضمن الفلسفة الاقتصادية إقامة مجتمع الرفاه والتضامن، وتحقيق الحد المقبول من المعيشة لجميع الأفراد، وتقليص الفجوات بين الأغنياء والفقراء، وتفتيت تركيز الثروة في أيدي فئة قليلة، وتوسيع قاعدة المساهمة لأكبر عدد ممكن من الأفراد في الشركات والمشاريع الاقتصادية، وفرض الضرائب التصاعدية على الأفراد والشركات لصالح صندوق التضامن الاجتماعي. فامتلاك المال ليس ميزةً وحسب، بل يعني مسؤوليةً أكبر. والثري مدين لجملة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي ساعدته في تكوين ثروته، لذلك فإن سداد دينه يقتضي منه مشاركةً أكبر في تحقيق التضامن والعدالة الاجتماعية.

 

في الفلسفة القرآنية، فإن المال هو أداة تحريك للنشاط الاقتصادي وليس أداةً للتملك والكنز والمباهاة

في الفلسفة القرآنية، فإن المال هو أداة تحريك للنشاط الاقتصادي وليس أداةً للتملك والكنز والمباهاة، فهدف المال تقويم حياة الناس وتيسير معاشهم: "أموالكم التي جعل الله لكم قياماً". والهدف الاقتصادي المنشود قرآنياً هو تفتيت تركيز الثروة وتوسيع قاعدة توزيعها: "كيلا يكون دولةً بين الأغنياء منكم". ولذلك فرض القرآن الزكاة، وهي حق معلوم للسائل والمحروم، وسن تشريعات المواريث كي يقل تركيز الثروة باستمرار، فتتفرق أموال الفرد الواحد إلى عشرة أو عشرين فرداً.

والنشاط الاقتصادي الذي يهدف إلى الربح وجمع الأموال؛ هو جريمة في منظور الدين: "ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالاً وعدده"، والكنز جريمة لأنه يتناقض مع الوظيفة الإنتاجية للمال: "وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ". وإذا كانت هذه الآية تهدد بعقوبة في الآخرة، فإنها تعطينا إضاءةً في حياتنا بسن تشريعات تمنع تجميد الأموال دون استفادة منها في الصالح العام، فلا يجوز مثلاً تجميد الأراضي والعقارات دون استثمارها بحجة الملكية، وهو ما يضر بالمجتمع عبر المضاربة ورفع الأسعار.

وحق التصرف في الملكية ليس مطلقاً، فالسفيه يجب أن يحجر على ماله: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم". وهذه الآية لو حررناها من القفص الضيق الذي حبسها المفسرون فيه؛ فإنها تؤسس لقاعدة عظيمة في الرؤية الاقتصادية، إذ إن أي ضرب من ضروب السفه في التصرف في الثروة ينبغي أن يشكل مبرراً قانونياً للحجر عليها وإعادة توجيهها بما يخدم الصالح العام. والسفه يعرّف بتبذير الأموال وتبديدها بغير رشد، كما يفعل بعض الأمراء الذين يبددون مليارات الدولارات في ألوان الترف أو السفه السياسي، بينما لو أحسن تخطيط هذه الأموال لحلت كثيراً من مشكلات الفقر والمرض والجهل والتخلف في العالم. وضمير المخاطب في "أموالكم" يمكن أن يعني أصحاب الولاية على هذه الأموال، وهم الممثلون الحقيقيون لإرادة الأمة الجمعية ومصالحها.

 

حصول كل فرد على الطعام والدواء والمسكن والتعليم؛ هو حق أساسي يجب أن يعطى لكل إنسان مقابل إنسانيته، وليس مقابل عمله

إن حصول كل فرد على الطعام والدواء والمسكن والتعليم؛ هو حق أساسي يجب أن يعطى لكل إنسان مقابل إنسانيته، وليس مقابل عمله. فمجرد ولادة أي فرد في المجتمع يفرض على هذا المجتمع تأمين الحد الأدنى له من الطعام والكساء والدواء والمسكن والتعليم. وليس من الأخلاق في شيء أن يترك إنسان في مواجهة الجوع أو المرض أو العراء؛ بحجة عدم ملكيته أو عدم استحقاقه. فإذا استطاعت الحكومة توفير فرصة عمل لكل إنسان كان خيراً، وإن لم تستطع فإنها ملزمة بتوزيع ثروات المجتمع بالكيفية التي تضمن تأمين الحد الأدنى من ضرورات الحياة لكل فرد من الأفراد، فإن كان ثمة تمايز بين الناس، فليكن بعد ضرورات المعيشة. أما إذا كان ابن الفقير يتضور جوعاً أو يتلوى ألماً؛ في الوقت الذي يلقي فيه الغني فائض طعامه في القمامة ويبدد أمواله ترفاً وبطراً، فإن مفهوم الملكية الخاصة يغدو بلا قيمة، مثلما روي عن أبي ذر الغفاري: "عجبت لمن لا يجد قوت يومه ألا يخرج على الناس شاهراً سيفه".

 

اتجاه الفكر الاقتصادي المنشود ينبغي أن يكون البحث في طرق تقليص الفروق الطبقية داخل المجتمع

إن مؤشر نضج الاقتصاد وأخلاقيته يجب أن يركز على العدالة الاجتماعية وليس على زيادة الأرباح، فسعي الأغنياء إلى زيادة أرباحهم تتكفل به الطبيعة الإنسانية، ولن تعدم إيجاد وسيلة إليه في أي ظروف، لكن المشكلة الأكبر التي يعاني منها العالم هي اختلال توزيع الثروة. لذلك، فإن اتجاه الفكر الاقتصادي المنشود ينبغي أن يكون البحث في طرق تقليص الفروق الطبقية داخل المجتمع، وتخفيض التباين في سلم الرواتب والمزايا، خاصةً في البلاد الفقيرة، وتوسيع المساهمة الشعبية في الشركات، وكسر تركز الثروة والاحتكار في أيدي فئة قليلة.

لا أكتب بقلم خبير اقتصادي، بل بقلب إنسان تؤلمه صور الفقر والبؤس في أرض لم تبخل بخيراتها على أهلها، لكن المفسدين فيها طغوا في الميزان ولم يقيموا الوزن بالقسط وأخسروا الميزان، فافتقر الفقراء، ليس لنقص الثروات، بل لجشع النفوس وتحكم المفسدين وفتور همة المصلحين.

التعليقات (0)