مقالات مختارة

عن المملكة العربية السعودية و"رجل الشرق الأوسط المريض"

عماد شقور
1300x600
1300x600

صكَّ القيصر الروسي، نيكولاي الأول، في العام 1853، تعبير "رجل أوروبا المريض"، ليدلل به على الامبراطورية العثمانية، التي راحت في تلك الآونة تتدهور من هزيمة مشينة إلى هزيمة مشينة أكثر. ومن ظلم لرعاياها، إلى ظلم أكثر، ومن درك تخلف إلى درك أكثر عمقا. وأصبح هذا التعبير السياسي دارجا في أوروبا، ثم في العالم وفي كتب التاريخ.


عرض القيصر نيكولاي على الملكة فكتوريا، ملكة بريطانيا العظمى في حينه، التحالف والتعاون لاقتسام ترِكَة "الرجل المريض"، ولم تكن تلك "التركة" في ذلك الزمن، إلّا الأقاليم والدول والشعوب في قارتي آسيا وإفريقيا، وتحديدا: غرب آسيا وشمال إفريقيا، أي ما نسميه في أيامنا هذه بـ"العالم العربي".


 ذلك أن غالبية الأقاليم التي كانت جزءا من الامبراطورية العثمانية في القارة الأوروبية، كانت مرشحة للاستقلال وإقامة دولها الخاصة بها، وغير مستهدفة، في العَلَنِ على الأقل، لأن تكون دولا وشعوبا مستعمَرة، والاكتفاء بتحويلها إلى دول تحت السيطرة، خلف عنوان "دول حليفة" لهذا المعسكر الدولي أو ذاك.


بعد ستة عقود من إطلاق روسيا القيصرية تسمية "رجل أوروبا المريض"، مات المُسَمّي والمُسَمّى: انهارت القيصرية في روسيا لمصلحة الثورة البلشفية/الشيوعية، وانهارت الامبراطورية العثمانية. حصل ذلك في السنة الأخيرة من سنوات الحرب العالمية الأولى. وكانت النتيجة النهائية أن تقاسمت الدولتان الأقوى، بريطانيا وفرنسا، كل ترِكَة الرجل المريض (المتوفى)، في آسيا وإفريقيا، ولتحصل إيطاليا على "جائزة ترضية" اسمها ليبيا.


كل هذا أصبح تاريخا. "رجل الشرق الأوسط المريض" في أيامنا هذه، هو كل الكيانات السياسية في المشرق العربي خصوصا، باستثناء واحد. ورحم الله المفكر اللبناني الراحل، منح الصلح، الذي كان يكرر في نقاشات معي، ومع كثيرين غيري: "دولة مصر… وبقية القبائل العربية".


ما لنا الآن وللتاريخ، قريبه وبعيده؟ نحن الآن في عين عاصفة، وربما إعصار، ليس فيه ثوابت مطلقة تماما، فالغالبية في حالة سيولة، وبعض في حالة تبخر وضياع واضمحلال وغياب. ويبقى في منطقتنا مكوّنان اثنان فقط، أكثر ثباتا، مقارنة بغيرهما، وهما: إسرائيل، بفعل تحالفاتها، وبفعل كونها أداة، (أشبه ما تكون بحاملة طائرات عملاقة)، للغرب، ولأمريكا بشكل أساسي، وليس بفعل قواها الذاتية؛ ومصر، بفعل قوتها الذاتية وتاريخها العريق وقدراتها البشرية وطاقاتها الكامنة، رغم لعنة الإرهاب التي تعاني منها حاليا.


كل ما عدا مصر وإسرائيل في المنطقة من مكونات طبيعية واصطناعية، مع إضافة إيران وتركيا، إذا تحدثنا عن الشرق الأوسط الكبير، هي كيانات في مرحلة سيولة، تتشكل وتتلوّن على شكل وألوان ما تُجمع فيه من أوان وقوارير وإطباق، قابلة هي الأخرى، دون عناء كبير، للتشرذم والتوزع على أوان أخرى، دينية وطائفية وعرقية، بعضها موجود ومتوفر، وبعضها قابل للتّشكّل، بفعل قوى خارجية، ووفقا لمصالحها.


لا تكمن مصلحتنا، كعرب، في انتهاء هذه العاصفة التي تغطي رياحها ورعودها المنطقة بأسرها، إلى ما كان الوضع العربي عليه قبل هبوبها. كانت المنطقة العربية بأسرها في حالة ركود وبلادة وتخلف وغياب عن العصر ومستجداته.


 ستة قرون متواصلة، حتى الآن، من التخلف والقعود وانعدام الدور، كافية وتزيد. فالعاصفة، بحد ذاتها، ليست لعنة ونقمة، بل وتحولها إلى إعصار وزلازل تطيح بكل ما تغلغل في الجسم العربي، (وخاصة في جزيرة العرب)، من بلادة وتخلف، قد تكون بشائر خير ونعمة، في حال تم توجيهها، برصانة وحكمة، وبعزيمة شباب وجيل صاعد متمرد على كل تخلف ورجعية، وواضعا لنفسه أهدافا سامية قابلة للتحقق، تعيد للأمة العربية ولمجتمعاتها الحيوية والنشاط، والقدرة على المساهمة الفعلية في بناء وتطوير ما وصله العصر من تقدم في العلوم، بقفزات ووتائر لم يسجل التاريخ سرعة مثيلة لها من قبل.


ما تشهده ساحة الجزيرة العربية، والمملكة العربية السعودية، على الأخص، غير مسبوق. أنه خروج وطلاق من أوضاع وتقاليد وثقافة ونمط حياة لا تتماشى مع العصر، وروحه وبوابات المستقبل التي يفتحها. لكن مجرد الخروج من هذا المستنقع ليس كافيا. الأهم من الخروج هو تحديد الهدف، واعتماد تخطيط واضح، وتأمين الطاقات البشرية والمادية اللازمة.

رجل السعودية القوي، ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، أقدم على اتخاذ خطوات سياسية مناقضة لما اعتمدته السياسات السعودية على مدى عقود. غالبية هذه الخطوات جديرة بالتقدير والتشجيع.

 

وكل ما هو معلن صراحة منها مقبولة. إلا أن بين هذه الخطوات ما يجدر بنا التحذير من مغبة التمادي فيها، فهي خطوات تتسارع في اتجاه الوقوع في المحظور. فالملابسات حول استدعاء رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، إلى الرياض، وكل ما تلا ذلك من تطورات تثير القلق. وإلحاق ذلك بتوجيه دعوة عاجلة للرئيس الفلسطيني، الأخ أبو مازن، وما رشح في العديد من وسائل الإعلام عن مجرياتها، تثير القلق.


إلا إن الأخطر من هذا وذاك، ما تسرب ويتسرب من معلومات على صعيد المواجهة مع إيران وسياساتها وتدخلاتها غير المقبولة في دول الجوار العربي. هذه التصرفات الإيرانية يجب التصدي لها.


لكن ليس من الحكمة مطلقا، الاستعانة باحتلال واستعمار قائم، لمواجهة احتلال واستعمار يتشكل على ارض الواقع الملموس، حتى وإن كانت إيران تنكره كهدف، وتفسره على غير ما هو حقيقة.


قد تكون إيران طامعة، وهي في اعتقادي كذلك. قد تكون تركيا طامعة، وهي في اعتقادي كذلك. لكن اللجوء إلى بناء تحالف مع احتلال واستعمار قائم، هو إسرائيل، للتصدي لخطر احتمال احتلال واستعمار، حقيقي أو متوهم، هو خروج من دائرة خطر كبير(إيران) يجب صده، إلى دائرة خطر أكبر بكثير (إسرائيل)، بل أكبر بما لا يقاس.


ليست المقارنة بين عدو وخصم مسألة مريحة، ولا هي مدعاة للشعور بالغبطة والارتياح. لكن الأوضاع المتفجرة في المنطقة، تفرض علينا ولوج هذا الباب، ولو بفقرة قصيرة واحدة:


لا تشكل إيران، ولا تشكل تركيا أيضا، خطرا في استيطان هذا البلد العربي أو ذاك، سواء كان الحديث عن العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن. ولا يمكن أن يكون أي احتلال واستعمار لأي أرض عربية من قبل إيران أو تركيا، مرفوقا بطرد أهل البلاد من بيوتهم وأرضهم. ولا يمكن مقارنة استعمار تقليدي بأي استعمار استيطاني (إسرائيل). ولا يشكل أي احتلال إيراني أو تركي، أو هيمنة من أي من الدولتين، خطرا على الأقصى أو النجف.


أكثر ما يهمنا من بين مكونات الشرق الأوسط الثابتة، بل الوحيد الذي يهمنا من بين هذه المكونات، هو مصر. فهي البلد والوطن والدولة العربية الوحيدة التي يمكن لها أن تشكل بر الأمان العربي الوحيد، والرافعة الوحيدة القادرة، في حال توفر قيادة كفؤة لها، أن تكون الجامع والقاعدة الصلبة المستقرة، التي تحمي المحيط العربي. تحميه وتضمن له إمكانية مستقبل من الاستقرار والتطور.


بتمكين مصر من أدى دورها، يمكن ضمان تحول "رجل الشرق الأوسط المريض"، إلى "رجل الشرق الأوسط المعافى".

القدس العربي

0
التعليقات (0)

خبر عاجل