كتاب عربي 21

منوال الفسيلة أو مستقبل تونس

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
الحرب في تونس على أشدها لتغيير رئيس الحكومة يوسف الشاهد والإشاعات تتغير كل ساعة حول الأسباب والنتائج والاحتمالات المختلفة لتونس ما بعد الشاهد ولكن لا أحد طرح السؤال ما هو الاختلاف الممكن بين حكومة الشاهد الحالية والحكومة القادمة لخلافته وهل كان الشاهد نفسه مختلفا في شيء أو في تفصيل ما عن الحبيب الصيد وحكومتيه اللتين أسقطتا بمناورات سياسية قادها حزب النداء الذي اختارهما بحكم الأغلبية البرلمانية ثم تخلى عنهما دون أن يقدم أي تقييم علمي أو جردة حساب لفترتي الحكم منذ انتخابات 2014؟

تعتبر هذه المعركة نموذج لمعارك الطبقة السياسية التونسية الكلاسيكية التي فرضت نفسها على الثورة ومسارها منذ 2011 معارك تذكر بمعارك النخب الطائفية في لبنان حيث تتغير الحكومات بأمزجة الطوائف أكثر مما تتغير بحاجة الناس إلى حكم رشيد. هي نموذج للصراع على الغنيمة السياسية التي يسمح بها المنصب أي في جوهرها معركة أشخاص بلا مشروع إلا ذواتهم الصغيرة بما يترك السياسة تدور في مربع ضيق ينعزل كل يوم عن مطالب الناس وحاجاتهم رغم أن الأزمة الاقتصادية تصيب تونس في مقتل لذلك سأنتظر بلامبالاة تامة مع المنتظرين نتيجة المعركة التي تدور في الكواليس فلا قدرة لفرد أن يؤثر فيها من خارجها مهما ادّعى من قوة الكلمة. وسأذهب للكتابة في حلم الثورة متفاعلا مع مقال قيم صدر بموقع تونسي كتبه عقل محترم ليس لي به سابق معرفة شخصية ولكن وجدت في ما كتب بعض ما تريد تونس من غير هذه النخبة المتكالبة على منافعها.

كتب السيد (Mohamed Cheikhalifa) وهو خبير اقتصادي إجمالي (macro économiste ) في موقع (ليدرز) بتاريخ (23.09.2016) مبينا فشل النموذج التنموي التونسي المتبع منذ صار قطاع البناء هو المحرك الرئيسي للاقتصاد تحت شعار (إذا سار البناء أو المعمار فإن كل شيء يسير خلفه) مقترحا منوالا آخر على قاعدة (إذا سارت الفلاحة فإن كل شيء يسير خلفها). سأسمي هذا المنوال بمنوال الفسيلة.

منوال الفسيلة 

مشروع تنمية تونس القادمة وهذا ما اتفق فيه مع الخبير المذكور يقوم على استبدال محرك الاقتصاد من البناء إلى الزراعة. فالزراعة هي الموفر الوحيد لغذاء التونسيين ولذلك فهي أكبر مشغل. غير أن هذا المنوال يعيش أزمة عميقة تتمثل في عدم التوفيق بين الحاجات وبين الموارد/ الإمكانيات. لأن هناك هدر للإمكانيات يتمثل في عدم السيطرة على الموارد المائية وعدم توجيه الاستثمار الزراعي نحو التقانة الحديثة (أي اعتماد الأساليب الحديثة العلمية للزراعة). 

الشح المائي في تونس معطى حقيقي لا يمكن إخفاؤه خلف نجاحات طبيعية في المجال الزراعي تكون غالبا نتيجة سنوات ممطرة أي ثمرة مباشرة لكرم الطبيعة وليس لفعل الإنسان الذي يتقن التخطيط.

مساحة الأراضي المستغلة في تونس هي أكثر بقليل من خمسة ملايين هكتار بما في ذلك المساحة الغابية وقد فات الخبير أو لعله أغفل عامدا أن يذكر بأن هذه الملايين الخمسة هي نصف المساحة الممكنة في تونس فخبراء التربة في تونس يقدمون رقم العشرة ملايين هكتار كمساحة قابلة للزراعة ولكن في ظل الأزمة المائية فإن أي زيادة في الاستصلاح الزراعي تفاقم مشكلة الموجود إذ سيتم تقسيم نفس الكمية من مياه الري على ضعف المساحة. 

الطاقة الشمسية للتحلية 

وجدت نفسي على اتفاق كامل مع الخبير الاقتصادي الذي يقترح اعتماد الطاقة الشمسية لتحلية مياه البحر والاستفادة منها في الزراعة (تعيش مناطق الجنوب أزمة مياه شرب عميقة نتيجة الملوحة المرتفعة في الطبقة الجوفية المستغلة بنسب متفاوتة) وبالنظر إلى الثروة الشمسية المتاحة في تونس فإن الاستثمار في الطاقة الشمسية واستعمالها بحكمة في تحلية مياه البحر يؤدي بالنتيجة إلى توسيع المساحات الزراعية وتنويع المنتجات خاصة وأن السوق التي تتقبل كل زيادة ممكنة في الإنتاج متاحة لدى الجارين القريبين ولدى السوق الأوربية ذات الاستهلاك النوعي.

يؤدي هذا التفكير إلى نقض أطروحة الاعتماد على البناء والتشييد المعماري كمحرك للاقتصاد وإحلال أطروحة الزراعة بديلا له فهذا القطاع يعش الآن أزمة خانقة يراها الخبراء وحتى رجل الشارع. لقد توقف المقاولون عن البيع لأنهم وفروا مساكن أكثر من حاجة السوق وهم يستهدفون دوما فئة اجتماعية واحدة هي فئة الموظفين (الطبقة الوسطى) القادرة على الاقتراض من البنوك التجارية لشراء مساكن.

لقد وصلت هذا الطبقة إلى حالة عجز عن الاقتراض لأنه تم استنزاف رواتبها في المستهلكات السريعة ذات الأثر المحدود كالسيارات الخاصة ولكن الاستنزاف الأكبر الذي تعرضت له كان بسبب غلاء المعيشة التي تلتهم أكثر من ثلثي دخل كل موظف. والغلاء نتيجة مباشرة لضعف الإنتاج في المجال الزراعي. الناتج بدوره عن أزمة المياه العويصة.(حيث تعتمد تونس على مياه الأمطار المجمعة في السدود (في الشمال) وعلى عدد محسوب بدقة من الآبار العميقة في الجنوب. 

ليستعيد الموظف قدرته الشرائية وجب توفير مواد غذائية (زراعية) بسعر مستطاع بما يرفع قدرات الادخار التي ستحرك لاحقا قطاع البناء. فالأصل في هذا المنوال إذن هو الزراعة بديلا لقطاع الخدمات الموجه لفئة واحدة تم استنزافها بشكل منهجي لصالح لوبي المقاولات المتمكن من رقبة الدولة والمجتمع والذي يمنع بشراسة التوجه المحتمل نحو نشاط جذري عميق كالزراعة الحديثة.

إنه منوال الفسيلة بديلا لمنوال الإسمنت منوال الفلاح بديلا لمنوال المقاول ولكن أين الصراع حول الحكومة من منوال الفسيلة الضرورة؟

الحكومات تناور في ممر ضيق 

لا علاقة لحكوماتنا بحاجاتنا فنحن في واد وهي في واد آخر. فحكوماتنا قادمة من نخبنا السياسية وهذه النخب مشغولة بمكاسبها الشخصية لا بتنمية البلد. وهي في بعض ما تفعل واقعة تحت ضغط لوبيات كثيرة لعل أقواها لوبي المقاولات المتمترس بنقابة أعراف قوية تهدد بتخريب البلد إذا تم المساس بمصالحها.

إن الصراع حول حكومة الشاهد هو بعض غربة الطبقة السياسية عن لحظة تاريخية أعقبت ثورة وبشرت بتغيير المنوال فلم تفلح بسبب هذه النخبة التي لم تكن شيئا مذكورا قبلها لكنها أفلحت في الالتفاف عليها لتعيد إنتاج منوال اللوبيات المتنفذة التي استنزفت الطبقة الوسطى وتنتهي الآن بتخريب كل المشهد الاقتصادي والسياسي. ومهما ضمت الحكومات من خبراء مزعومين فإنهم يتحوّلون بسرعة إلى أدوات تنفيذية بيد اللوبيات المحيطة بالأحزاب والتي تشتري الذمم و تفسد المشهد التونسي برمته.

لم يعد مهما أن نغير حكومة الشاهد فلم يكن مهما أن غيرنا حكومة الصيد بحكومة الشاهد أنه تغيير دابة الجر أمام نفس العربة الفارغة التي تتجه إلى غير وجهة إنها حكومات بلا برنامج ولذلك فإن الشارع الذي لا يجمع على ضلال يتابع المشهد ببرود واحتقار ويبتعد كل يوم فراسخ عن الاهتمام بالشأن العام ولسان حال الجميع يقول لا فرق بين فحل بصل وفحل ثوم.

0
التعليقات (0)