قضايا وآراء

قرار ترامب.. بداية "الربيع العبري" أم نهايته؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600

سلاما لأرضٍ خُلقت للسلام
وما رأت يوما سلاما
(محمود درويش)


عندما اندلعت الثورات العربية سنة 2011 انطلاقا من تونس، كان أكبر نقد أو تشكيك يوجّه إليها - من المنظورات المختلفة لـ"وعي المؤامرة" - هو أنها ربيع "عبري". إنها تهمة/ شبهة عرفت دورانا كبيرا، ووحدت بين أغلب "المتضادات" الإيديولوجية الحاكمة. فالربيع العربي هو ربيع "عبري" عند السعودية- الوهابية وحلفائها من "المطبّعين"، خاصة النظام العسكرتاري المصري، وهو أيضا ربيع عبري عند أشد خصوم هذا المحور "الرجعي"، من القوميين والبعثيين واليساريين والليبراليين؛ الذين ينتسبون حقيقة أو ادعاء لمحور "الممانعة". ويمكننا أن نختزل تهمة "العبريّة" التي توسم بها الثورات العربية؛ في تهمة كانت توجّه أساسا إلى قوتين "إسلاميتين" أساسيتين: السعودية- الوهابية في سوريا واليمن خاصة، والحركات الإخوانية في سائر البلدان التي عرفت صعود الأحزاب الإسلامية إلى الحكم. أمّا "المطبعون" من عسكر مصر، ومن يكفلهم في الإمارات مثلا، فهم عند هؤلاء آخر قلاع الدفاع عن "المدنية" و"الدولة" في مواجهة الإخوان.

ولم تكن القوى"الحداثية" التي تسم الربيع العربي بـ"العبري"؛ مشغولة بالبحث عن الأسباب الموضوعية والفكرية التي تجعل السعودية الوهابية تقود حربها على الثورات العربية، وعلى الحركات الإخوانية - وتصنّفها في قائمتها للإرهاب، تلك القائمة العابرة للمذاهب - بشراسة لا تختلف في شيء عن شراستها في محاربة النظام السوري أو الحوثيين في اليمن. كما لم تكن تلك الحركات "العلمانية" مشغولة بتفسير أسباب التقائها الموضوعي مع "الرجعية" السعودية الوهابية في محاربة الإخوان ومن يدعمهم إقليميا - مثل قطر وتركيا - أو بتفسير الأسباب العميقة التي تجعل المجتمع الدولي يبارك الانقلاب المصري ضد الإخوان، ويدعم "تحجيم" باقي الحركات الإخوانية، مع تأييد واضح لعودة ورثة المنظومات التي قامت عليها الثورة و"كلاب حراستهم الإيديولوجية" يمينا ويسارا.

 

التطبيع مع الكيان الصهيوني" هو أثر منبثق وضروري لسياسات التطبيع مع كل مظاهر الفساد والتبعية


لقد سبق لكاتب هذا المقال أن بيّن في أكثر من موضع سابق؛ أنّ "التطبيع مع الكيان الصهيوني" هو أثر منبثق وضروري لسياسات التطبيع مع كل مظاهر الفساد والتبعية. فلا يمكن لأنظمة لا تملك مقومات السيادة ولا تتمتع بشرعيات حكم حقيقية وتوافقية؛ إلا أن تسلك سبيل التطبيع مع الكيان الصهيوني، بحثا عن "دعم دولي" تواجه به احتجاجات المواطنين ومطالبهم المشروعة. فالتطبيع مع الفساد والاستبداد في الداخل هو أحد جناحي النظام الذي لا يمكنه أن يطير إلا بجناح التطبيع مع الخارج في لحظته المعولمة، أي التطبيع مع الصهيونية وما يخضع لسلطتها من "الجهات المانحة" دوليا وإقليميا.

هل يمكن بعدما تقدّم أن ننتظر من القوى التي شككت في الربيع العربي (بقيادة التحالف السعودي- الإماراتي) وحاربت مخرجاته السياسية (من مثل إمكان انبثاق شراكة حقيقية بين الإسلاميين والعلمانيين تتجاوز منطق الصراع الوجودي والنفي المتبادل).. هل يمكن أن ننتظر منها التحدث عن "ربيع عبري" حقيقي يُدشّنه ترامب بإعلانه الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني ونقل السفارة الأمريكية إليها؟ هل يمكن لهذه القوى أن ترى في الأساطير التأسيسية للوعي اليهو- مسيحي المتحكم في العلاقة الاستراتيجية بين أمريكا والكيان خطرا "وجوديا" عليها يعادل - إن لم يكن يتجاوز - الخطر الشيعي أو الإخواني أو الخطر "المواطني" الذي هو أكبر ما تخشاه الأنظمة الكليانية المتدثرة باستعارات رعوية كاذبة؟ وهل يمكن مثلا لمحمد بن سلمان – بعد هذا القرار الكارثي - أن " يُعدّل" في قائمة الأعداء للدولة السعودية لتشمل غير المسلمين (السنة والشيعة على حد سواء)؟

 

في الأيام التي سبقت إعلان ترامب، تحدثت بعض الأخبار المتطابقة عن حصول ترامب على "الضوء الأخضر" من السعودية ومصر


في الأيام التي سبقت إعلان ترامب، تحدثت بعض الأخبار المتطابقة عن حصول ترامب على "الضوء الأخضر" من السعودية ومصر (وبالتبعية من كل حلفائهما في المنطقة). ونحن نرى أنّ هذا الخبر صحيح من جهة وكاذب من جهة أخرى. فهو صحيح من جهة "علم" حلفاء واشنطن بما يعتزم الرئيس الأمريكي القيام به، ولكنه كاذب من جهة احتياج ترامب للضوء الأخضر أو وجود ألوان أخرى غير الأخضر عند زعيمي السعودية ومصر (وحلفائهما حتى في السلطة الفلسطينية). إنّ الحديث عن ضوء أخضر يفترض وجود ألوان أخرى يمتلكها رعاة "صفقة القرن"، ويفترض أيضا القدرة على إشعالها في وجه ترامب، وهو ما لا يمكن أن يدعيه عارف بموازين القوى بين "السيد ترامب" وحلفائه في المنطقة.

بصرف النظر عن الخلفية الدينية اليهو-مسيحية العميقة لقرار ترامب (البعد الإيماني في السياسة الأمريكية المساندة لإسرائيل، ذلك البعد الذي لا يقل أهمية عن فائدة الكيان للمصالح الأمريكية في المنطقة)، وبصرف النظر عن تداعيات القرار الأمريكي على أطراف الصراع الفلسطيني، خاصة أنصار التنسيق الأمني والسياسي مع الحكومة الإسرائيلية، وبصرف النظر عن الصفعة التي وجّهها الرئيس الأمريكي لكل من يتحدث عن الرعاية الأمريكية لعملية السلام (وعن موضوع القدس باعتباره جزءا من الحل النهائي)، فإن الرئيس الأمريكي قد وضع العرب والمسلمين (بصرف النظر عن الاعتبارات الإيديولوجية التي تفرّقهم) أمام النتيجة الحتمية لمسار "التطبيع"، كما جعلهم يقفون على مقدار الهوّة بين الدعوى والمحصول، سواء أكان ذلك في مبررات التطبيع الفلسطيني مع الكيان أم في علاقة أغلب الأنظمة العربية بالقضية الفلسطينية، بعيدا عن المزايدات السياسية والايديولوجية البائسة. فهذا المسار الارتكاسي الذي بدأته السلطة العسكرية المصرية ثم رسّختة منظمة التحرير الفلسطينية، باعتراف زعيمها المرحوم ياسر عرفات في كانون الأول/ ديسمبر 1988 لأوّل مرة بحق "إسرائيل" في الوجود، هو مسار أخرج القضية الفلسطينية من منطق الصراع "الوجودي" إلى منطق الصراع "الحدودي". ولا شك في أنّ تغيير مدارات الصراع ومفرداته وغاياته - في ظل التشرذم العربي والفلسطيني - كان وما زال يخدم الكيان الصهيوني أكثر مما يخدم القضية الفلسطينية وثوابتها.


يوما بعد يوم، تؤكد القضية الفلسطينية أن مدار الصراع الحقيقي ليس بين الإسلاميين والعلمانيين (ففي كل خندق خونة وصادقون)، كما تؤكد أنّ الصراع مع الكيان الصهيوني بمفردات "التطبيع" والقبول بالأمر الواقع هو مسار حتمي للهزيمة، وتؤكد أخيرا أنّ الطابور الخامس الحقيقي للصهيونية هو أغلب الحكومات العربية، وكلاب حراستهم الإيديولوجية الذين يحرفون الصراع عن مداراته الحقيقية ويصنعون قوائم الإرهاب على أعين الصهاينة وبتنسق معهم. ولا شك في أن السؤال الذي يتبادر إلى ذهن القارئ الآن هو التالي: ما العمل؟ إن كاتب هذا المقال لا يدعي امتلاك مشروع/ بديل واضح، ولكنه يدعي أنه يمتلك نقاط ارتكاز ستجعل لأي مشروع معنى وفائدة ولو بعد حين: لا للتطبيع الفردي مع الكيان الصهيوني ومع بني الاستبداد والتبعية الداعمة له، لا للصراعات الهووية- الثقافوية التي لن تنفع إلا الأنظمة الفاسدة، لا لوعي الهزيمة، نعم للإيمان بالله وبالانسان وبالتاريخ والعمل من منظور رسالي يتجاوز الحياة الفردية والمنفعة الشخصية المباشرة، نعم للتفاوض حول مشروع مقاومة "جامع" للإسلاميين والعلمانيين، بل مشروع جامع للسنة والشيعة ولكل من يؤمن بحق الانسان في أن يحيا خارج الاستعارات الرعوية والخرافات التلمودية البائسة.

 

تبدو هذه النقاط مثالية أو ضربا من أحلام اليقظة، ولكن علينا ألا ننسى أن المشاريع التي غيرت التاريخ كانت في بداياتها أحلام يقظة أو ضربا من "الجنون النسقي"


قد تبدو هذه النقاط مثالية أو ضربا من أحلام اليقظة، ولكن علينا ألا ننسى أن المشاريع التي غيرت التاريخ كانت في بداياتها أحلام يقظة أو ضربا من "الجنون النسقي". وحتى لو صرفنا النظر عن مؤسسي الأديان الكبرى، فإنه يمكن التمثيل لهذا الأمر بأولئك الذين ماتوا وهم يقاومون الاستعمار، بدون اي أفق للنصر في المدى المنظور. لقد كان هؤلاء في نظر مطبعي عصورهم و"واقعييهم" أصحاب نوازع انتحارية مرضية (فسلوكهم غير عقلاني ولا يغير شيء في الواقع المعيش ولا في المدى المنظور)، لكن هؤلاء غيّروا التاريخ فعلا بتغيير أنفسهم وبوضع ذواتهم الفانية ضمن مشاريع جماعية تحررية.

ختاما، علينا أن نتذكر دائما أنّ الصهاينة لا يحكمون العالم بأساطيرهم التوراتية، ولا بمراكز نفوذهم المالية والسياسية فقط.. بل يحكمونه أيضا بوعي الهزيمة أو بقابلية الاستعمار/ التطبيع التي تعبر عنها كتابات/ مواقف العديد من أصوات "العقلانية" والواقعية" التي ليست في محصولها الأخير إلا حليفا موضوعيا للاستبداد والتبعية.

التعليقات (0)