قضايا وآراء

العودة إلى روح انتفاضة الحجارة

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600

يوم الجمعة الماضي، حلت الذكرى السنوية الثلاثون لبدء انتفاضة الحجارة التي اندلعت في الأراضي المحتلة بتاريخ 8 كانون الأول/ ديسمبر 1987، واستمرت عدة سنوات، ونجح الفلسطينيون خلالها في استنزاف الاحتلال أمنياً وسياسياً وإعلامياً، قبل أن يتم الالتفاف على تلك الانتفاضة بتوقيع اتفاقية أوسلو؛ التي أنقذت الاحتلال من ورطته، وكبلت الفلسطينيين بقيود لا يزالون عاجزين إلى اليوم عن التحرر منها.

وقد تزامنت ذكرى الانتفاضة هذا العام مع موجة الغضب التي تشهدها فلسطين ومختلف أنحاء العالم، بعد قرار ترامب اعتبار القدس عاصمةً لدولة الاحتلال.. هذا التزامن شجع على استحضار المقارنات وإثارة أسئلة عن إمكانية استعادة تجربة تلك الانتفاضة.

 

لم تكن تجربة انتفاضة الحجارة مثاليةً، خاصةً إذا قيمنا التجربة بمآلاتها التي انتهت بفشل سياسي، لكنها كانت تجربةً متميزةً رمزياً ووطنياً واجتماعياً؛ تستحق استلهام روحها



وإذا كان الزمان لا يعود إلى الوراء، فإن حالة العجز ومحدودية الخيارات التي يعاني منها الفلسطينيون، منذ طي صفحة انتفاضة الحجارة، يوقظ في نفوسهم الحنين إلى تلك الأيام. لم تكن تجربة انتفاضة الحجارة مثاليةً، خاصةً إذا قيمنا التجربة بمآلاتها التي انتهت بفشل سياسي، لكنها كانت تجربةً متميزةً رمزياً ووطنياً واجتماعياً؛ تستحق استلهام روحها. فهي في المحصلة كرست الصورة القبيحة للاحتلال، وحرمته من الأمن والاستقرار السياسي، وكشفت وجهه عالمياً، في مقابل تكلفة محتملة نسبياً كان الفلسطينيون يدفعونها، وهو ما كان يسمح بإطالة أمد تلك الانتفاضة وتطبيع الناس حياتهم معه. فقد استشهد خلال ست سنوات من عمر الانتفاضة 1300 فلسطيني، مقابل حوالي 4400 شهيد فلسطيني خلال الانتفاضة الثانية التي استمرت خمس سنوات، ومقابل حوالي 2200 شهيد فلسطيني في 51 يوماً فقط في حرب عام 2014.

في عام 2000، حاول الفلسطينيون الرجوع إلى الانتفاضة، بعد انسداد المسار السياسي في محادثات كامب ديفيد، لكن المسارعة إلى عسكرة الانتفاضة ووتيرة العنف المرتفعة حالت دون إحياء الطابع الشعبي والاجتماعي الذي ميز الانتفاضة الأولى. كذلك، ولوجود السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، وتضخم الجهاز البيروقراطي الذي أنشأته السلطة، غير البيئة السياسية والاجتماعية في المجتمع الفلسطيني، فشهدنا في الانتفاضة الثانية نموذجاً نضالياً وتضحيات هائلةً، لكنه نموذج مقيد سياسياً، لا يستطيع الفكاك من واقع أوسلو وقيودها السياسية والاقتصادية، وهو ما أبقى التميز من نصيب تجربة الانتفاضة الأولى.

ثمة ميزات عديدة لتجربة الانتفاضة الأولى لعل من أهمها:

 

الطابع الشعبي للانتفاضة، واستعمال أدوات شعبية، مثل الحجر والمقلاع والمولوتوف والكتابة على الجدران

الطابع الشعبي للانتفاضة، واستعمال أدوات شعبية، مثل الحجر والمقلاع والمولوتوف والكتابة على الجدران، والنطاق الواسع لمشاركة الجماهير في التظاهرات وإلقاء الحجارة واحتضان المطاردين في البيوت لإخفائهم من ملاحقة الاحتلال.. هذا الطابع الشعبي عزز إيجابية الشارع الفلسطيني، وكرس ثقافة الانتماء الوطني في كل بيت، وعمق ورطة الاحتلال، فهو يواجه حالةً شعبيةً عارمةً ليس لها عنوان محدد يمكن استهدافه. وهذا في المقابل؛ ينبهنا إلى خطأ عسكرة الانتفاضة الثانية وما تبعها من حروب غزة، فحالة العسكرة تغيّب الطابع الشعبي للمواجهة، وتساعد الاحتلال في ترويج رواية مضللة للعالم بأنه يواجه مجموعات إرهابيةً، وتتيح له تصعيد أدوات العنف. وهو ما حدث فعلاً في الانتفاضة الثانية؛ التي استعمل فيها الاحتلال الدبابات وطائرات "إف 16"، في مقابل الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي في الانتفاضة الأولى. كذلك، فإن العسكرة لا تستطيع خوض معارك طويلة النفس، وتعود الجماهير على السلبية والاتكالية؛ لأن العمل العسكري بطبيعته يقوم على السرية والنخبوية، وليس على المشاركة الجماهيرية الواسعة والممتدة زمانياً.

 

والالتحام المباشر بين الشعب الفلسطيني ودولة الاحتلال؛ هو ما وسع نطاق المواجهة من جهة، وأضاف أعباءً اقتصاديةً على الاحتلال من جهة أخرى، إذ كان هو المسؤول المباشر عن الشعب الفلسطيني، ولم تكن هناك جهة فلسطينية رسمية تساوم بالمال مقابل الاضطلاع بوظيفة أمنية، فوقوع الشعب تحت الاحتلال المباشر كان محرضاً للثورة في النفوس.

 

الالتحام المباشر بين الشعب الفلسطيني ودولة الاحتلال؛ هو ما وسع نطاق المواجهة من جهة، وأضاف أعباءً اقتصاديةً على الاحتلال من جهة أخرى


لم تكن هناك سلطة، فلم يكن هناك جسم بيروقراطي من عشرات آلاف الموظفين ينتظرون راتب آخر الشهر، ولم تكن هناك طبقة فلسطينية منتفعة من واقع الارتهان بالاحتلال؛ وذات مصالح معاكسة لاتجاه الانتفاضة.. كان المجتمع الفلسطيني بسيطاً، متقارباً في المستوى الاقتصادي، ومتضامناً اجتماعياً، فلم يكن سيف الابتزاز الاقتصادي مسلطاً عليه. وكان من الصور المشرقة التي ارتبطت بالانتفاضة الأولى؛ إنشاء لجان شعبية كانت تعمل على تنظيم الفعاليات النضالية السلمية ضد الاحتلال، ودعم صمود الشعب، وذلك عن طريق توفير المؤونة والتعليم والأدوية وباقي الخدمات الضرورية للمناطق التي يطبق فيها حظر التجول. فكرة اللجان الشعبية كانت أساساً لإنشاء مجتمع مدني حقيقي متجذر الانتماء الوطني وغير مرتهن إلى أجندة الممول الخارجي، كما صار الحال بعد أوسلو.

نجح الفلسطينيون في انتفاضة الحجارة في المعركة الأخلاقية. فقد مثل مشهد المواجهة بين الجنود المدججين بالسلاح والفتية المتسلحين بالحجارة؛ أكبر صورة دعائية حشدت التأييد العالمي مع القضية الفلسطينية، ودخلت كلمة "الانتفاضة" قواميس العالم كله، وانتشرت الكوفية الفلسطينية وأصبحت رمزاً للنضال العادل، كما انتشر الأدب الفلسطيني المتمثل في روايات غسان كنفاني وشعر درويش، ورسومات ناجي العلي، وكتابات ادوارد سعيد؛ عالمياً.

في ضوء هذه الميزات الفريدة لتجربة الانتفاضة الأولى؛ لا ينبغي أن ينظر إليها فلسطينياً بأنها مجرد مرحلة تاريخية طويت، بل ينبغي عقد ورش عمل على كافة المستويات الوطنية لدراسة تلك التجربة، والبحث في استعادة روحها من أجل إعادة الزخم الثوري للقضية الفلسطينية، وتوريط الاحتلال في المربع الذي يزعجه ويستنزفه.

 

معوقات تحول دون تكرار التجربة تتعلق بطبيعة الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي؛ الذي يشكل حياة الفلسطينيين في مرحلة ما بعد أوسلو


ثمة معوقات تحول دون تكرار التجربة تتعلق بطبيعة الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي؛ الذي يشكل حياة الفلسطينيين في مرحلة ما بعد أوسلو. فاتفاقية أوسلو، كما يستنتج أستاذ علم الاجتماع الفلسطيني، شكري الهزيل، قد أنتجت "إنساناً سلبياً فاقد الثقة في ذاته، وغير مبال بالقضايا الوطنية.. ينظر للعالم من منظور حياته الشخصية والاقتصادية، وقد تشكلت في حقبة أوسلو ثقافة الراتب والوظيفة واللامبالاة"، وفق تعبير السيد شكري الهزيل.

نقلت أوسلو العبء الاقتصادي للاحتلال؛ من إسرائيل إلى الدول المانحة، وأسهمت الدول المانحة في زيادة الاتكالية الاقتصادية للسلطة والناس في الأراضي الفلسطينية، ونجحت دولة الاحتلال في خلق معادلة تربط الأموال بالدور الأمني للسلطة الفلسطينية. ووفق النظرة الإسرائيلية لدور السلطة، فإنه يتمثل في العمل على القضاء على مصادر تهديد الأمن الإسرائيلي.

من العناصر المضادة لعودة الانتفاضة الأولى، تكونت شبكة من المصالح المرتبطة بالواقع الراهن وإقامة مشاريع استثمارية للسلطة تقوض التفكير الثوري، وهو ما تنبه إليه الصحفي البريطاني بن وايت في صحيفة الغارديان عام 2012؛ حين تساءل عن أسباب عدم هبوب رياح الربيع العربي على فلسطين، فرأى أن من العوامل التي تقوض النزعة الثورية لدى الفلسطينيين؛ ظهور رقعة واسعة من المصالح المادية المرتبطة بالحفاظ على الوضع الراهن، فضلاً عن تنامى الخوف لدى البعض من أن التغيير الذي قد يأتي قد لا يكون بالضرورة تغييراً إيجابياً. وذكر وايت أن التجار الفلسطينيين الذين يعتمدون على الرواتب وتصاريح العمل التي تمنحها السلطة الفلسطينية للعمل داخل المستوطنات أو داخل إسرائيل؛ يشكلون دائرةً صلبةً لعدم تغيير الوضع الراهن في فلسطين.

هذه المعوقات يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، لكنها لا تعني إغلاق باب الأمل أمام القدرة على إحياء المشروع الوطني في فلسطين، إذ إن المحرض الأكبر للثورة هو بقاء الاحتلال وانتهاكاته ضد الإنسان والأرض، وفشل مشروع التسوية، وتزايد شعور القهر، وانسداد نافذة الأمل أمام الشباب. وإن كان متعذراً استعادة تجربة الانتفاضة الأولى كاملةً بسبب ما طرأ من تغيرات سياسية وبنىً اجتماعية واقتصادية، فإن هناك من العناصر الأساسية في تلك التجربة ما يحتاج الفلسطينيون إليها في هذه اللحظة التاريخية التي يتهاوى فيها مشروع التسوية ويتأزم فيها مشروع المقاومة العسكرية.. ولعل من أهم العناصر التي يمكن إحياؤها الآن؛ العودة إلى خيار المقاومة الشعبية بوتيرة عنف محدودة، لكن على نطاق شعبي واسع ومستدام، والعودة إلى فكرة اللجان الشعبية التي تخفف من ارتهان الواقع الفلسطيني إلى أجندة الممول الخارجي، والنضال في سبيل دمقرطة الحالة الفلسطينية الداخلية لتقوية المناعة في مواجهة الضغوط الخارجية؛ ولتصليب موقف القيادة السياسية، خاصةً إن تذكرنا أن من عوامل إجهاض الانتفاضة الأولى استبداد قيادة المنظمة الخارجية بالقرار، وعدم ارتقاء مواقفها التفاوضية إلى حجم التضحيات الهائلة التي كان المنتفضون في الداخل يقدمونها..

التعليقات (0)