قضايا وآراء

"أزمة القراءة والانفتاح التكنولوجي"

يحيى اليحياوي
1300x600
1300x600

أزمة القراءة في العالم العربي سابقة على الانفتاح الإعلامي، وعلى ظاهرة التطور التكنولوجي نفسها. هي ظاهرة بنيوية، لا يعتبر ذات الانفتاح والتطور بداخلها إلا عنصرا طارئا، غير محدد لها إلا بنسب معينة، قد تكبر وقد تصغر، وفق السياق، وتبعا لهذا الظرف أو ذاك.

التكنولوجيا عموما، وتكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال تحديدا، لم تخلق ذات الأزمة، ولا أججت من مداها كثيرا، بقدر ما أبانت عن تمظهراتها بالشكل والمضمون، وأكدت أن المجتمع غير القارئ غالبا ما يتدثر خلف تبريرات هي من قبيل قول الحق المحيل على الباطل، كالقول بتدني قدرة الاقتناء، أو عدم تجاوب العرض مع طبيعة الطلب، وهكذا.

 

الإعلام والاتصال، من فضائيات وإنترنت ومتعدد الأقطاب وما سواها، لم تدفع للعزوف عن القراءة، إذ المجتمعات القارئة بقيت كذلك


صحيح أن ذات التكنولوجيا قد أثرت بعمق في تراتبية المكتوب والمرئي والمسموع والالكتروني، تارة لفائدة هذا وتارات لفائدة ذاك، لكنها لم تذهب لحد قتل اللاحق للسابق، بدليل أنه في البلدان المتقدمة؛ لم يتأثر الكتاب إلا نسبيا بوصول هذه التكنولوجيا، ولم تتأثر الصحافة إلا في حدود، جراء وصول الصحافة الألكترونية، لا بل إن المكتوب قد استفاد من الشبكة الرقمية لترويج مواده ومحتوياته على نطاق واسع، ودونما مضايقات جمركية تذكر.

إن الذي يبرر لتراجع المقروء جراء وصول الالكتروني؛ إنما يبتغي تبرير واقع حال قائم، هو بكل المقاييس تعبير عن منظومة أزمة عامة، وليس فقط أزمة قراءة. بمعنى أنه يريد تسويغ الأزمة بمعطيات خارجة عن صلب الإشكالية، تماما كمن يبرر لضرورة تدخل الخارج بتوافر عناصر الانهيار والتداعي الداخلية، في حين أن من لديه النية على التدخل لا يتساءل في ذات العناصر إلا من باب الظروف المساعدة لا المحددة للسياق.

إن وسائل الإعلام والاتصال، من فضائيات وإنترنت ومتعدد الأقطاب وما سواها، لم تدفع للعزوف عن القراءة، إذ المجتمعات القارئة بقيت كذلك حتى بتطور ذات الوسائل من بين ظهرانيها، بقدر ما دفعت إلى تكريس منظومة اللاقراءة باعتبارها معطى سوسيولوجيا ثابتا، كان ولا يزال قائما بظل هذه الطفرة وبدونها.

من المؤكد أن ذات الوسائل قد تكون قد عمقت من شرخ ذات العزوف، لكنها لم تستنبته ولا كانت ثاوية خلفه. إنها واكبته وعايشته وتزامنت مع مده، لكنها لم تخلقه ولا أشرت بمداه في الزمن والمكان، ولا استطاعت تقديم عناصر الجواب على إشكاليته.

والقصد هنا إنما القول بأن لكل أداة من أدوات الإعلام والاتصال دورها ووظيفتها. هي متكاملة دون شك، لكنها لا تتنافى في الهدف والغاية والأفق، أفق الترويج للمعلومة ونشرها وتعميمها على نطاق واسع.

 

تاريخ التقنيات لم يثبت أن مستجدا تكنولوجيا قد قتل ما سبقه من مستجدات، بل ضمن له - على العكس من ذلك - الامتداد والتجدر


ثم إن تاريخ التقنيات لم يثبت أن مستجدا تكنولوجيا قد قتل ما سبقه من مستجدات، بل ضمن له - على العكس من ذلك - الامتداد والتجدر، لا بل وضمن له أفق الانتشار والرواج بالزمن والمكان. العبرة بالجديد كما بالقديم؛ هي بالرسالة وبالغاية من ذات الرسالة، وليس بالضرورة بالعتاد والتقنية، كائنة ما تكن قوة ونجاعة ذات التقنية.

صحيح أن هناك اليوم، في جيل الإنترنت الثاني، إمكانية توفير كتب لم تكن متاحة من ذي قبل، وهناك سبل لتعميم المعرفة على نطاق واسع، بفضل الشبكات الرقمية والالكترونية وما سواها، وهناك إمكانية لضمان رجع الصدى في الحالتين معا، لكن الحلقة الرفيعة الغائبة بصلب كل ذلك هي القارئ، باعتباره أداة العملية وغايتها بالآن معا.

إن سبل القراءة متوفرة ومتاحة بنسب عالية زمن الإنترنت والمكتبات الرقمية المجانية، لكنها بحاجة لقارئ لم يستفزه لحد الساعة لا الكتاب الورقي ولا الكتاب الالكتروني، إنه الحلقة التي يبقى الحديث بغيابها مجرد كلام عابر، لا بل وحديث مزايدة بامتياز.

 

مشكلة القراءة في الوطن العربي مشكلة منظومية بامتياز، تطاول الجريدة وتطاول الكتاب، لا بل وتطاول الفضائية الجادة والموقع الالكتروني الهادف


إن مشكلة القراءة في الوطن العربي مشكلة منظومية بامتياز، تطاول الجريدة وتطاول الكتاب، لا بل وتطاول الفضائية الجادة والموقع الالكتروني الهادف أيضا. بالتالي، فالمسألة أبعد من أن تكون مرتبطة بالعتاد أو بالإناء، إنها مسألة سياق تاريخي، لم يفرز إلا الجهل والتخلف والرداءة واحتقار المعرفة، لا بل وازدراء أهل العلم والمعرفة. لو تمثلنا الأمر كما نزعم، فسيتأكد القول بأن المسألة خطيرة للغاية، وتتعدى البعد الأدواتي الصرف إلى قضايا عامة هي مصدر المشكلة والمأساة.

صحيح أنه ليس من وظيفة الجريدة أن تعلم أو تثقف، فهي تقدم الأخبار وتنشر المعطيات، وصحيح أن وظيفة التثقيف هي من صلاحية المدرسة والجامعة والخزانة والكتاب، إلا أنها كلها مستويات مقصرة في دورها، ولا تستطيع أن تلعب الحد الأدنى من ذات الدور، لأسباب يطول الحديث فيها هنا، لعل أصلها تعذر تأصيل منظومة القراءة كأداة تنمية وتطور وتغيير.

إن المعرفة، بعكس ذلك في هذه الحالة، ستبقى حصرا عنصر ضبابية وتشويش، عوض أن تكون أداة تجنيد وتقدم، أو رفعا من المستوى العام، علما وجمالا.

التعليقات (0)