مقالات مختارة

سقطة «طيران الإمارات» في تونس

نزار بولحية
1300x600
1300x600

من كان يصدق أن تلك الجملة بالذات كانت ستثير كل ذلك التوتر في الإمارات؟ حتى رجب طيب أردوغان نفسه لم يكن يتصور، حين قال في الخامس عشر من الشهر الجاري، محذرا من تداعيات قرار ترامب نقل سفارة بلاده للقدس، إنه «إذا فقدنا القدس فلن نتمكن من حماية المدينة المنورة، واذا فقدنا المدينة فلن نستطيع حماية مكة، واذا سقطت مكة سنفقد الكعبة». يمكن أن يكون لتصريحه أثر عكسي في أبوظبي.

ولكن ما حصل كان فعلا فوق الخيال، فعوض التنبه لمغزى تحذير الرئيس التركي، وأخذه بالجدية المطلوبة، ظهرت حساسية شديدة حول المعني أكثر من غيره بحماية الأماكن المقدسة. هل هم عرب الجزيرة وآل سعود بالتحديد؟ أم باقي المسلمين، بمن فيهم الأتراك الذين زاد ضعف الحضور الرسمي العربي في قمة إسطنبول الأخيرة حول القدس من طموحهم في تحقيق تلك الغاية؟ 

لم يرغب السعوديون بإظهار ردود قوية واكتفى بعض مسؤوليهم بأن يكتبوا على تويتر قائلين مثلا لأردوغان «اقطع العلاقات مع إسرائيل كما وعدت في خطاب سابق مزلزل مجلجل، أما الحرمان الشريفان فلهما رب يحميهما ثم رجال شرّفهم الله بخدمتهما» مثلما فعل الأمير عبد الرحمن بن مساعد. ولكن الإماراتيين كانوا ملكيين اكثر من الملك، وفضل وزير خارجيتهم أن يخرج عن تحفظه الدبلوماسي ويعيد نشر تغريدة على حسابه على تويتر، تتهم أجداد أردوغان بأنهم سرقوا زمن حكم القائد التركي فخر الدين باشا للمدينة المنورة أموالا ومخطوطات تعود للمكتبة المحمودية، وهو ما عجل بتحول الجدل إلى تراشق كلامي، ثم أزمة مكشوفة بين أنقرة وأبوظبي. 

غير أن اللعب بوجه مكشوف مع قوة إقليمية وازنة مثل تركيا باستنساخ رديء لتغريدات ترامب الشهيرة لم يكن سهلا على الإطلاق. وعوض أن تخرج الإمارات من معركة التاريخ ولو بكسب رمزي محدود، لم تجن بالأخير سوى خسارة جديدة قوّت السلطان العثماني وجعلته يبدو بالمقابل، وبنظر الكثيرين عربيا أكثر من العرب أنفسهم. والغريب أن الإماراتيين لم يستوعبوا ما حصل لهم مع أردوغان بسرعة، بل ارتكبوا بعد أيام معدودة فقط من تلك السقطة المريعة خطأ استراتيجيا فظيعا مع بلد ما انفكوا يحاولون السيطرة عليه بلا جدوى.

لقد أعلنوا وبشكل مفاجئ عن قرار عنصري أربك حتى حلفاءهم من رموز ما بات يعرف بأحزاب الإمارات في تونس، وجعلهم لا يستطيعون الخروج من المأزق الذي وضعهم فيه، ونجحوا من حيث لم يرغبوا في تجميع التونسيين على كلمة واحدة، وهي الثأر لما لحقهم من إهانة بعد قرارهم الجمعة الماضي منع التونسيات من ركوب ناقلاتهم الجوية، وبذلك بدا من تبقى من أصدقائهم في موقف عزلة وضعف، إذ كيف يبرر هؤلاء للتونسيين منع نسائهم اللواتي كن الورقة الرابحة للنظام القديم في مواجهة الإسلاميين من السفر، أو حتى عبور بلد يكتفي وزير دولته للخارجية بعد أكثر من ثمان وأربعين ساعة من المنع بكتابة تغريدة على حسابه على تويتر يقول فيها «إننا في الأمارات نقدر المرأة التونسية ونحترمها ونثمن تجربتها الرائدة ونعتبرها صمام الأمان»؟ هل سيقولون لهم لا تهولوا الأمور ولا تعطوها حجما اكبر من حجمها ذرا للرماد في العيون؟ أو انهم سيكررون عليهم ما قالته الناطقة باسم الرئاسة من أن القرار «سيادي يخص الإمارات»؟ ومن سيصدقهم إن قالوا وفعلوا ذلك؟

ولكن السؤال الأهم الذي بقي بعدها هو ما الرسالة التي أراد الإماراتيون إيصالها لتونس في هذا الوقت بالذات من خلال المس بواحدة من أعمدة نظامها الحديث، أو لنقل بما كان يعد ذخيرتها الاستراتيجية في مواجهة الإسلاميين؟ وهل كانوا يدركون حقا أنهم يخربون بيوتهم بأيديهم وأنهم بذلك القرار يضعفون حلفاءهم ويخدمون من حيث لا يشعرون خصومهم؟ أم أنهم تقصدوا فعل ذلك مدركين تبعاته الفورية على صورتهم في تونس، لكن متطلعين لتحقيق كسب قد يعوض خسارتهم لاحقا؟ 

لننظر جيدا لما قاله الشيخ الغنوشي أياما قليلة فقط قبل القرار الإماراتي، فقد صرح رئيس حركة النهضة لوكالة الأناضول بأن «القضية الفلسطينية تجدد الربيع العربي بعدما كان يعيش حالة خمول وتآكل، وتحارب أهلي بسبب المؤامرات». مضيفا أن «التحركات أعادت الربيع العربي، فحركة شعوب ضد الظلم وحركة شعوب تطالب بالعدل والحرية والتنمية في مسالك راقية بعيدة عن العنف والإرهاب هي جوهر الربيع العربي الذي حركه السيد ترامب من خلال قضية القدس». لقد حصل ذلك في وقت بدا فيه الموقف الرسمي قريبا من الموقف الشعبي المساند للفلسطينيين.

ورغم أن الرئيس قائد السبسي لم يشارك في قمة اسطنبول مثل معظم القادة العرب، إلا أن وسائل الإعلام المحلية نقلت خبر استدعائه السفير الأمريكي لقصر قرطاج، لإبلاغه موقف تونس الرافض لقرار ترامب، ثم نبأ مكالمة هاتفية جمعته بالرئيس أردوغان قبل القمة، كان أبرز ما جاء فيها، بحسب نص وكالة الأنباء الرسمية، عدا التطرق للقضية الفلسطينية «بحث علاقات الأخوة والتعاون المتميزة القائمة بين البلدين وسبل تنميتها إلى المستوى الذي يلبي تطلعات الشعبين الشقيقين، لاسيما في ضوء الزيارة التي سيؤديها الرئيس التركي إلى تونس يومي السادس والعشرين والسابع والعشرين من ديسمبر الجاري، وذلك بدعوة من رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي». 

ويبدو أن محاولة المسؤولين التونسيين مسك العصا من الوسط، بالرضوخ لضغوط قد تكون مورست عليهم لإثنائهم عن حضور قمة اسطنبول على مستوى رئاسي، ودعوة الرئيس التركي بالمقابل لزيارة بلدهم بعد القمة، تم النظر لها في الإمارات كمحاولة التفافية للاصطفاف مع الطرف الآخر. وبالنسبة للإماراتيين فقد اعتبروا أن اثر الائتلاف الحكومي بين قوى النظام السابق والإسلاميين كان واضحا في توجهات قصر قرطاج. ولان الهدف الاستراتيجي كان وما زال فض تلك الشراكة التي يرونها غير طبيعية بالمرة، فقد بدأ الفصل الجديد من مشروع قد يكون محمد دحلان مستشار ولي العهد الإماراتي الذي وصفته صحيفة «لوموند» الفرنسية بـ»قلب المؤامرات السياسية والمالية في الشرق الأوسط» هو من رسم خطوطه الكبرى، في زيارته المريبة لتونس الشهر الماضي، ويقضي بفك الارتباط بالإسلاميين في انتظار عزلهم وإبعادهم في مرحلة موالية عن المشهد السياسي. ولعل سقطة الطيران الإماراتي كانت هي الإشارة الرمزية الأولى لانطلاق ذلك المشروع، بتزامن مع زيارة الرئيس أردوغان لتونس. 

لم يكن الهدف من وراء استثارة المشاعر الوطنية من خلال ذلك القرار تنبيه التونسيين للمؤامرات التي تحاك ضد بلدهم، بل إعطاء نفس جديد لعناصر النظام القديم؛ حتى تستجمع قواها؛ استعدادا لمواجهة مرتقبة مع حركة النهضة. إنها عملية مجنونة تشبه الانتحار السياسي، الذي قد يعيد خلط الأوراق، ويطهر المتهمين المفترضين في تونس بالعمالة لدبي، ويعطيهم فرصة حتى يقطعوا ولو في الظاهر روابطهم بها، ويكسبوا غطاء شعبيا باتوا يحتاجونه أكثر من قبل. لكن تلك السقطة قد تكون أيضا دليل السقوط النهائي لحكام أبو ظبي، الذين باتوا يحسبون كل صيحة عليهم ولو كانت في القدس أو المدينة، أو ربما حتى في تونس.

القدس العربي

0
التعليقات (0)

خبر عاجل