قضايا وآراء

تابوات إسرائيلية

حسام شاكر
1300x600
1300x600

لم تكن فلسطين موجودة أساسا، أمّا ألفا سنة فهي مجرد فترة انتظار لا قيمة لها، وكل ما ترونه فوق الأرض هو قشرة شكلية لا بأس من استكمال إزالتها؛ ليست انطباعات وهمية هذه، بل هي ما يسيطر على أذهان الجمهور الإسرائيلي بفضل المفعول الإيحائي الذي تبعث به دعاية دؤوبة شحنت أذهان الأجيال بقناعات صارمة على نحو لا يقبل النقاش أو المراجعة.


أحد التابوات (المحظورات الثقافية والمحرمات الاجتماعية) الحساسة للغاية، مثلاً، يتعلق بمجرد الإقرار بوجود الشعب الفلسطيني في الماضي أو حتى الحاضر، فالحقيقة تُناقِض رواية التأسيس الصهيونية من جذورها، اعتاد الإسرائيليون الحديث الفجّ عن "عرب" فقط، وهذا حل لفظي مريح لهم، أليس العرب موجودين خارج هذه الأرض أيضاً؟ وهم عندهم مجرد قوم جاؤوا من الصحراء وبوسعهم العودة إليها، أو يمكن طردهم نحوها، "فهذه البلاد لن تكفينا معاً، ولديهم عشرون دولة عربية، لماذا لا يذهبون إليها؟"، لهذا المنطق الساذج وجه عكسي يمكن افتراضه بأسئلة مقابلة من قبيل: عندكم الرئيس الودود ترامب، فلماذا لا تذهبون إليه أيضاً؟!


لكنها العقلية التي وفّرت الذريعة الثقافية لسياسة التطهير العرقي التي شرح "المؤرخون الإسرائيليون الجدد" بعضاً من تفاصيلها المذهلة، بدءاً من بني موريس وصولاً إلى الأعمال الموسعة لإيلان بابِّه. لهذا لا داعٍي لإجهاد النفس بالبحث عن تعبير "الشعب الفلسطيني" في كل ما صدر عن المسؤولين الإسرائيليين خلال "عملية السلام" طوال ربع قرن مضى، فلن يعثر عليها أحد. هناك "فلسطينيون" وحسب، أما "الشعب" فله وطن وتاريخ وهوية وجذور وحقوق بالأحرى، وهذه كلها مفاهيم لا يحتمل الإسرائيليون تصوّر وجودها بحق غيرهم في هذه البلاد التي هي بالنسبة إليهم ليست فلسطين مطلقاً. الحقيقة المنسية اليوم تقريباً أنّ المؤسس ثيودور هرتزل ذاته ورفاقه من قادة المنظمة الصهيونية الأوائل لم يجدوا من خيار سوى تسميتها بفلسطين، وهو الاسم الذي جاء أيضاً في عموم الوثائق اللاحقة؛ بما فيها تصريح بلفور الصادر سنة 1917.


ومع هذا المنحى لا تأتي الآثار في التطبيق الإسرائيلي عِلماً كغيره أو حقلاً دراسياً تقليدياً، بل هي مشبّعة بالدعاية التي تتجاوز علم الآثار ذاته. فالحفريات والمتاحف في التجربة الإسرائيلية مشحونة بأيديولوجيا فاقعة ومستترة تضخّ مقولات واستنتاجات موجّهة بعناية. على الآثار في السردية الصهيونية أن تخدم قصة التأسيس التي بدأت في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر وليس في فلسطين أساساً؛ وعلى الدعاية الآثارية أن تصطنع بلاداً متخيّلة كما جاءت في الأسطورة تماماً، فلا تعترف بما يسبق ألفي سنة أو ثلاثة آلاف، ولا تلتفت إلى ما بعدها أيضاً.


لكن ما العمل مع المكان بطابعه الثقافي الواضح، وبسِمات البيئة العربية الفلسطينية، المسلمة والمسيحية الحاضرة فيه بوضوح؟ وكيف التصرّف مع كل هذه المآذن والقباب وأبراج الكنائس التاريخية التي نجَت من الهدم والتدمير، ومع الأنماط المعمارية العربية المعروفة والأسوار الشرقية، وحتى أشجار الزيتون والنخيل التي سَلِمت من الاقتلاع والإحراق؟ تقضي الحيلة الإسرائيلية في تجاوُز هذه المعضلة الواقعية بالفرار من الواقع الظاهر على السطح إلى باطن الأرض، وهذا بخطاب دعائي يتذرّع بمقطع محدد وقصير نسبياً من التاريخ القديم وإبرازه دون سواه، وإغراقه بالأيديولوجيا القومية. والمغزى من ذلك هو أنّ ما ترونه الآن هي القشرة السطحية الطارئة، أما الباطن العميق فهو لنا؛ لنا وحدنا. إنها رواية تروق للسيد دونالد ترامب أيضاً على أي حال، الذي قرّر بحماسة مذهلة لم يجرؤ عليها أسلافه؛ أنّ القدس هي للإسرائيليين فقط.


يُتيح الاحتفاء بالتاريخ المُتخيّل إشباعاً غامراً لأيديولوجيا الدولة القومية - الدينية، فيبرِّر بالتالي فعل السحق والتدمير بحق مراحل واسعة من التاريخ يقع إنكارها لأجل اصطناع مشهد يوافق التاريخ المُتخيّل في الأذهان، حسب أيديولوجيا التأسيس تماماً. في يونيو/ حزيران 1967، مثلاً، قامت جرافات الاحتلال الإسرائيلي بعد أيام قليلة من احتلال الشطر الشرقي من القدس بتدمير حي تاريخي عريق في قلب البلدة القديمة. تكشف مقارنة الصور بين المشهديْن السابق واللاحق، عن إحدى حملات التدمير الآثاري المنهجية الواسعة التي شهدها القرن الماضي. تم تدمير "حي المغاربة" بالكامل بما اشتمل عليه من قرابة 135 مبنى أثري من عهود متعددة، بغرض إحداث فراغ كبير في قلب القدس يبدو اليوم واضحاً في ساحة حديثة كبرى، يسميها الإسرائيليون اليوم "ساحة المبكى/ الجدار الغربي"، وعمرها نصف قرن فقط، أي منذ واقعة التدمير الكبرى. مَن يقوى اليوم على إجراء مقارنة بين صور هذه البقعة قبل سنة 1967 وبعدها؟ ومن يذكر حي المغاربة التاريخي اليوم بكل ما اشتمل عليه من معالم أثرية تسبق زمن صلاح الدين؟ ومن يسأل مثلاً إلى أين تم حمل أنقاض حجارته القديمة وآثاره الممتدة إلى أكثر من ألف سنة؟


المذهل في ما جرى في هذه الواقعة كما في غيرها؛ لا يقتصر على حدود التدمير الواسع الذي جرى بتكتّم شديد وعلى عجل بعد الاحتلال العسكري آنذاك؛ بل في حقيقة أنّ هذه الوقائع الصادمة لم تستحقّ نقاشاً فعلياً حتى الآن في الأوساط الإسرائيلية ذاتها؛ ولا حتى في العالم أيضاً، وكأنها عملية تسوية اضطرارية لملعب كرة قدم. وهذا لأنه أحد التابوات الإسرائيلية الكبرى على أي حال، فكل ما يتعلق بهوية المكان وتاريخه هو تابو شديد الوطأة بالمعيار الإسرائيلي.


أثقلت الدعاية الإسرائيلية جمهورها بأيديولوجيا تعود بهم إلى تصوّرات ساذجة عن ألفي سنة مضت أو ثلاثة آلاف، وليس قبل ذلك بطبيعة الحال. تبدأ هذه الدعاية من النشيد الصهيوني ذاته "هاتكفاه"، التي قامت المنظمة الصهيونية بالتلاعب بكلماته لاحقاً ليتم إقحام "القدس" فيه، التي لم يذكرها بالاسم كاتب كلماته سنة 1877 نفتالي هيرتز إيمبر. لا يتوقف الأمر على التلفيق التاريخي في الدعاية، بل على تلفيق الكلمات في النشيد التي تم انتزاع بعضها من النشيد الوطني البولندي، كما وقع سرقة لحنه من أغانٍ شعبية أوروبية معروفة بنسخ متعددة.


وتمتدّ الدعاية إلى خطابات رؤساء الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، لتحشو أذهان الإسرائيليين بمفهوم محدد: كنتم هنا بالأمس، وأصبحتم هنا اليوم. وما يستقرّ في الأذهان كرسالة ضمنية من هذه التعبئة؛ هو أنّ كل من كانوا بين "الأمس" و"اليوم" لا قيمة لهم في الواقع، فكلهم عبر آلاف السنين أقوام من الرحّل الطارئين على المكان بلا جذور ولا تاريخ، وقد يفهم بعض الجمهور المتحمس لهذا المنطق أنه لا بأس بالتالي بتدمير ممتلكاتهم وطردهم إن تطلب الموقف. إنها عقلية "الترانسفير" (الترحيل) ومنطق الجرافات التي تسحق التاريخ لصالح تاريخ تخترعه هي، وتحاول إعادة إنتاجه على الأرض حسب خريطة طريق يحددها فريق نتنياهو اليميني المتطرف المدعوم بالجيش وعصابات المستوطنين وبلدية القدس وسلطة الآثار.


كان داني أيالون أحد مقربي نتنياهو، وقد شغل منصب نائب وزير الخارجية حتى سنوات مضت، علاوة على أنه مدافع شرس عن الاستيطان الإسرائيلي غير الشرعي على أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية. ظهر أيالون في مقطع دعائي شهير عن القدس تسلّل فيه افتراضياً إلى أنفاق تحت البلدة القديمة، وأخذ يتخيّل نفسه يتجوّل في المدينة قبل ألفي سنة. يحفل المقطع بكثير من السذاجة التاريخية، كالعادة، لكنه يتضمّن مشهداً مرعباً بحق، هو تدمير قبة الصخرة وما حولها، وكأنّ معلم القدس الأبرز هو مجرد فرع لمطعم وجبات سريعة يمكن سحقه لإقامة مرآب للسيارات.


ما أقدم عليه أيالون افتراضياً، المعروف بنشاطه الواسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، هو ما حاول ناشطو المنظمات الفاشية الدينية تنفيذه على الأرض عبر عقود متواصلة، بتدبير اعتداءات لتدمير المسجد الأقصى وقبة الصخرة والآثار الإسلامية والمسيحية بأساليب متعددة. بدأت الاعتداءات بإشعال النار فيه صيف سنة 1969، ثم بانكشاف مخططات متوالية لمحاولة تفجير هذه المقدسات بالقنابل أو قصفها بطائرات حربية، لأنّ القدس كما هي عليه الآن هي لدى هؤلاء مجرد شكل طارئ ينبغي التخلص منه، كما اقترح أيالون في مقطع الفيديو.


أما اعتداءات "تدفيع الثمن" فتقوم بتنفيذ هجمات إحراق وتخريب وتشويه على مساجد وكنائس وأديره وبيوت ومقابر للمسلمين والمسيحيين، مع رسم شعارات بالعبرية تطالبهم بالخروج من البلاد. لم يأتِ هؤلاء جميعاً من كوكب آخر، بل من مناهج التعليم الإسرائيلية وخضعوا لتأثيرات دعائية حشَت رؤوسَهم بفكرة أنهم أسياد التاريخ وأرباب المكان، والنتيجة هي سلسلة لا تتوقف من آلاف الاعتداءات منذ مطلع القرن الحالي، أدى بعضها إلى إحراق أطفال منهم الرضيع علي دوابشة.


بعض الفضل في هذا يعود للدعاية الآثارية بتعبيراتها الاستعلائية على تاريخ القدس وفلسطين، ومحاولتها الرامية لمصادرته بالكامل، وإنكار وجود الآخرين بالكامل أو تصوّرهم غزاة ينبغي مطاردتهم. وقد تم تحضير خلفيات مسرحية لازمة لذلك؛ مثلاً في واحدة من أهم مؤسسات الدولة التي قامت على أنقاض فلسطين. إنها الكنيست، وفي مقاعدها يجلس النواب سنوات متواصلة في مواجهة جدار حجري كبير مصطنع، مطلوب منه أن يمنح شعوراً بالعمق التاريخي.

 

إنها على أي حال الخلفية المسرحية المناسبة للتشريعات الاستعلائية. وتتزايد بالفعل مشروعات القوانين ذات الطابع العنصري، التي تحاول فرض هوية يهودية على البلاد مع تجاهل تاريخها الواقعي ومواصلة إنكار وجود الشعب الفلسطيني، والتضييق على منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية التي تعارض الدعاية الرسمية.


من بين نواب الكنيست هؤلاء مستوطنون متعصبون يعيشون في بيوت مُقامة على أراضٍ سرقوها من الفلسطينيين في الضفة الغربية بقوة السلاح وتحت رعاية جيش الاحتلال، هم مقتنعون من أعماقهم بأنّ الربّ قد أعطاهم هذه الأرض قبل آلاف السنين من تنصيب حكومة نتنياهو، وبعضهم يمنحونك الانطباع وكأنّ الله تعالى موجود لأجل المستوطنين المسلحين ببنادق آلية يستعملونها في ترويع الفلسطينيين في القرى وإحراق أشجار الزيتون. ولأنهم أسياد التاريخ بلا منازع فإنّ مستوطناتهم المحصنة بعناية تُقام عادة فوق التلال، وفيها يحوزون إطلالة استعلائية من نوافذ كبرى على القرى الفلسطينية التي يرونها تحت أقدامهم.


أما في المدن والبلدات على الساحل، فإنّ السؤال الأصعب الذي يواجهه قاطن منزل مسروق منذ سنة 1948، هو: من بنى هذه الدار يا أبي؟ من غرس هذه الشجرة يا أمي؟ من شقّ هذه الطريق يا جدي؟ إنها تابوات إسرائيلية حساسة للغاية، تشبه الأسئلة التي يتوجّه بها أبناء القرصان لأبيهم؛ عن مصدر الكرسي القديم الفاخر الذي يجلس عليه.


ترجمة خاصة إلى العربية مع التصرف عن "ميدل إيست مونيتور"

0
التعليقات (0)