كتاب عربي 21

وشربت أوروبا الكأس المسموم

محمد عمارة
1300x600
1300x600
في نيسان/ إبريل عام 1997 عقد في عمان (الأردن) حوار إسلامي مسيحي - في رحاب المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت)، مع وفد الكنائس الألمانية حول "عملية العلمنة والمسيحية الغربية".

ولقد شاركت في هذا الحوار، معلقا على بحث قدمه الدكتور "جوتفرايد كونزلن"، أستاذ اللاهوت الإنجيلي والأخلاقيات الاجتماعية بجامعة القوات المسلحة في ميونخ بألمانيا.

ولقد جاء هذا البحث شهادة شاهد من أهلها على ما صنعته العلمانية والتنوير الغربي بالمسيحية في أوروبا، حتى أني (لأهمية البحث) قمت بالتقديم له والتعليق عليه ونشره بسلسلة "في التنوير الإسلامي"، بدار نهضة مصر عام 1999م.

ففي هذا البحث، قال أستاذ اللاهوت والأخلاقيات الاجتماعية:

- "لقد مثلت العلمنة: تراجع السلطة المسيحية، وضياع أهميتها الدينية، وتحول معتقدات المسيحية إلى مفاهيم دنيوية، والفصل النهائي بين المعتقدات الدينية والحقوق المدنية، وسيادة مبدأ دين بلا سياسة وسياسة بلا دين".

- "ولقد نبعت العلمانية من التنوير الغربي، وجاءت ثمرة لصراع العقل مع الدين، وانتصاره عليه باعتباره مجرد أثر لحقبة من حقب التاريخ البشري، يتلاشى باطراد في مسار التطور الإنساني".

- "ومن نتائج العلمانية: فقدان المسيحية لأهميتها فقدانا كاملا، وزوال أهمية الدين كسلطة عامة، لإضفاء الشرعية على القانون والنظام والسياسة والتربية والتعليم، بل وزوال أهميته أيضا كقوة موجهة فيما يتعلق بأسلوب الحياة الخاص بالسواد الأعظم من الناس وللحياة بشكل عام، فسلطة الدولة، وليست الحقيقة، هي التي تصنع القانون وهي التي تمنح الحرية الدينية".

- "ولقد قدمت العلمانية الحداثة باعتبارها دينا حل محل الدين المسيحي، يفهم الوجود بقوى دنيوية، هي العقل والعلم".

- "لكن، وبعد تلاشي المسيحية، سرعان ما عجزت العلمانية عن الإجابة على أسئلة الإنسان، التي كان الدين يقدم لها الإجابات. فالقناعات العقلية أصبحت مفتقرة إلى اليقين، وغدت الحداثة العلمانية غير واثقة من نفسها، بل وتُفككُ أنساقها العقلية والعلمية عدمية ما بعد الحداثة، فدخلت الثقافة العلمانية في أزمة، بعد أن أدخلت الدين المسيحي في أزمة. فالإنهاك الذي أصاب المسيحية أعقبه إعياء أصاب كل العصر العلماني الحديث، وتحققت نبوءة "نيتشه" (1844 - 1900م) عن "إفراز التطور الثقافي الغربي لأُناس يفقدون نجمهم الذي فوقهم، ويحيون حياة تافهة، ذات بعد واحد، لا يعرف الواحد منهم شيئا خارج نطاقه"، وبعبارة "ماكس فيبر" (1864 - 1920م): "لقد أصبح هناك أخصائيون لا روح لهم، وعلماء لا قلوب لهم"!

- ولأن الاهتمام الإنساني بالدين لم يتلاشَ، بل تزايد، وفي ظل انحسار المسيحية، انفتح باب أوروبا لضروب الروحانيات وخليط من العقائد الدينية لا علاقة لها بالمسيحية ولا بالكنيسة، ومن التنجيم إلى عبادة القوى الخفية والخارقة، والاعتقاد بالأشباح وطقوس الهنود الحمر، وروحانيات الديانات الأسيوية، والإسلام الذي أخذ يحقق نجاحا متتزايدا في المجتمعات الغربية.

- لقد أزالت العلمانية السيادة الثقافية للمسيحية عن أوروبا، ثم عجزت عن تحقيق سيادة دينها العلماني على الإنسان الأوروبي، عندما أصبح معبدها العلمي عتيقا، ففقد الناس "النجم" الذي كانوا به يهتدون، وعد الخلاص المسيحي ثم وعد الخلاص العلماني"!

هكذا شهد أستاذ اللاهوت والأخلاقيات الاجتماعية على ما صنعته العلمانية والتنوير والحداثة بالدين في أوروبا، عندما شربت هذا الكأس المسموم الذي يسعى الغرب والمتغربون إلى أن يتجرعه المسلمون الآن.
التعليقات (2)
اينشتاين
الثلاثاء، 27-02-2018 03:17 م
الصراع الذي يقوده ولي العهد محمد بن سلمان من داخل الجسم السعودي ويحاول إيهام العجم والعرب أن السعودية قادرة على تحرير ساحة العرف من " التطرف " وتقديم النموذج المطلوب لإرضاء الغرب ، والعامل الأساسي الذي اعتمد عليه الشاب السعودي الحاكم هو عنصر تخويف مركز الأسرة المالكة الحاكمة ، ابتداء من قانون " جاستا " ، لذلك كان سهلا عليه إقناع الآباء والإخوة من داخل البيت الملكي ، بدفع الرشوة التي صارت حديث العام والخاص إلى الرئيس الأمريكي " ترامب " على أمل الوقوف أمام هذا القانون وعدم الدفع به إلى الأمام . هل الصراع هنا بين فكر علماني من جهة ورجال الدين تحت مسمى " خدمة الحرمين " أو " هيئة الأمر بالمعروف " أو غير ذلك ؟ لو كان المشروع هو تخليص السعودية من الاستبداد لسلم الجميع ، لأن الخاسر الأكبر سيكون أمريكا خصوصا ما تعلق بساحة " البترو دولار " ، هل نسمي مشروع محمد بن سلمان مشروحا تحرريا ، مشروعا نهضويا ؟ لا هذا ولا ذاك ، الفكر العلماني الذي حرر أوربا من وطأة الفكر الكنسي الماكر بريء من مثل هذه المشاريع ( هناك من انخدع بوسائل إعلام متخصصة ) وراح يسمي ما يقوم به ولي العهد السعودي " علمانية " إمعانا في التدليس على الرأي العام العربي والإسلامي خصوصا ، والرأي العام العالمي . تلاحظون ما أقدمت وتقدم عليه الإمارات من خلال الآلة التي يقودها ولي العهد عندهم ، لا يخرج ذلك عن المسار الذي ذكرناه آنفا بخصوص السعودية ، فقط يجب الإشارة إلى التفاهم القائم داخل البيت الحاكم الإماراتي ، لقد تم التسليم لولي العهد للمضي في مشروعه إلى أبعد الحدود لأنهم يرون فيه مصلحتهم و" دوام " عرشهم . إن اللعبة التي يقوم به هؤلاء وأولئك تتجاوز حدود الفكر العلماني ، والرؤى اليسارية ، والأعمال المافياوية أو المافيوزية بكثير ، إننا أمام اخطبوط جاهلي بثوب القرن ال21 ، ولا أستبعد أن يكون الرافد الرئيسي له هو الفكر الصهيوني والفلسفة المنغلقة الماكرة ، اليوم أستغرب كثيرا غياب هيئة اتحاد العلماء المسلمين عن الساحة وعدم اكتراثها وكأن أعضاءها المحترمين اتفقوا على عطلة طويلة المدى ، أهو المرض ، أم هو العجز ، أم هو الانكفاء على الذات ؟ لا ينبغي تحريف مسار الصراع والدخول في معارك لا وجود لها إلا داخل بعض الذهنيات التي غاب عنها دور ورسالة المسلم في ظل مهمة الشهادة التي أمرنا بها الله في قوله سبحانه : " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " الآية 143 من سورة البقرة . شكرا والسلام .
اينشتاين
الإثنين، 26-02-2018 11:40 م
الأستاذ محمد عمارة نقل لنا شهادة الدكتور "جوتفرايد كونزلن"، أستاذ اللاهوت الإنجيلي والأخلاقيات الاجتماعية بجامعة القوات المسلحة في ميونخ بألمانيا : " لقد مثلت العلمنة تراجع السلطة المسيحية، وضياع أهميتها الدينية، وتحول معتقدات المسيحية إلى مفاهيم دنيوية، والفصل النهائي بين المعتقدات الدينية والحقوق المدنية، وسيادة مبدأ دين بلا سياسة وسياسة بلا دين " . وحكم بأن الفكر العلماني هو حرم أوروبا من نور الدين المسيحي ، هكذا فهمت ، إذ يمكن للقراء الوقوف على هذا الحكم دون عناء ، وأكثر من ذلك فإن موقف الأستاذ اللاهوتي كان في نيسان/ إبريل عام 1997 . هل الدين المسيحي هو ما نقلته لنا كنائس المسيحيين ؟ هل الإنجيل هو ما تحتفظ به الكنائس اليوم ؟ كم هو عدد النصوص المتناقضة والمتضاربة التي وقفت عليها الإنسانية ؟ هل هذا هو الدين الذي حرمتنا العلمانية من نوره ؟ ألا تستطيع الرجوع بقليل من القراءة إلى ما هو من التاريخ ، وتحديدا قصص التاريخ الكنسي القرنين الرابع والخامس للميلاد ، يوم كان الكنسيون يكنون عداوة لا حدود لها للعلوم والفلسفة والآداب في تحديهم البغيض لأهل العلم والأخلاق ويسمونهم بالوثنيين ، من حكم بالإعدام على عالمة الرياضيات " هيباثيا " ابنة عالم الرياضيات ثيون التي قامت بتصنيع اسطرلاب وهيدروسكوب وتألقت كأستاذة في مدرسة الفلسفة بالإسكندرية ؟ وكانت تبحث في قوانين تحرك الأرض حول الشمس وتحاول تخطي أبحاث من سبقوها عل خطى العالِم أريستارك من ساموس (ـ 310 ـ230 ق م) قد طرح فكرة نظام كوني تدور فيه الأرض حول محورها وحول الشمس، على عكس ما كانت تفرضه الكنيسة من أن الأرض مسطحة وثابتة ، و جاليليو الذي اعتقلته الكنيسة وأجبرته أن يتراجع عن نظرياته، راكعا على الأرض، أمام اثني عشرة كاردينالا، هل الفكر العلماني هو الذي كان يقف وراء هذه الأفعال ؟ هل الفكر العلماني هو الذي وقف وراء الكنيسة ورجالها ليفعلوا هذه الأفاعيل ؟ إن رجال الكنيسة يدعون العالم اليوم إلى توحيد الأديان ( مؤتمر استانا ) الذي حضره شيخ الأزهر ، هل يملك الفاتيكان النسخة الأصلية للإنجيل ؟ لذلك ولذلك فقط إن الفكر العلماني هو الذي خلص العالم من وطأة رجال الفكر ( الدين الكنسي ) وله الفضل في تحرير أوربا من الخرافات ، أما إذا كنت تقصد اللائكية فهي الوريث الفعلي لرجال الفكر الكنسي الذين اعدموا هيباثيا وأمثالها داخل حدود المدينة المصرية " الاسكندرية " . واعلم أن أحرار أوربا ، خصوصا الذين اعتنقوا الإسلام يدركون أن ساحة المنازلة بين الفكر الكنسي والفكر العلماني هي ساحتهم في حدود الغرب المسيحي ، وليست ساحة الإسلام دين التوحيد الذي يسع كل الساحات وكل المجتمعات بنوره الخالد .