قضايا وآراء

فضائل الفوضى

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
تبادر مجموعة من الشبان الطموحين بدافع من الشغف إلى عمل اجتماعي أو سياسي. يحققون نجاحا جزئيا أو كاملا، فيأتي إليهم الملأ من قومهم يحيون فيهم النشاط والإبداع ويقولون لهم: إذا كنتم فئة قليلة وقد أنجزتم ما أنجزتم، فكيف إذا صرتم جماعة كبيرة منظمة؟ سيكون الإنجاز أضعافا مضاعفة.. يطرق الشبان رؤوسهم أمام هذا المنطق الرياضي الرصين، فينزلون من توهج الروح واجتماع القلب ويتورطون في سلسلة طويلة من التفاصيل الإدارية، ويبدأون في مناقشة تخصيص العمل وتوزيع اللجان وتسمية المناصب، ويكبر الجسم البيروقراطي ويتشعب. بعد ذلك تحتل التفاصيل التنظيمية والأعباء الإدارية الجزء الأكبر من العقول، فينطفئ طموح أول مرة ولا يرجع الشباب المبادرون إلى ذات الشغف الذي بدأوا به، ويتحولون إلى جزء من الإيقاع البطيء للنظام السائد.

ما أكثر تكرار هذه القصة في الحياة، حتى لكأنها سنة ثابتة من سنن التاريخ؛ تحكي تردد الأمم الدائم بين اللحظات القصيرة للشغف المتدفق وبين الآماد الطويلة لهيمنة الروتين، بين إشراقة الروح التي تحرر طاقة إبداعية هائلة، وبين الهجوم المعاكس لمنطق المؤسسة والتنظيم والحسابات المتأنية المتوجسة من الإقدام والتغيير.

بالمنطق الرياضي يفترض أنه كلما زادت الإمكانات البشرية والمادية كان ذلك أدعى لزيادة الإنتاج، لكن الواقع يقول إن كثيرا من المؤسسات التي تتمتع بموازنات مالية ضخمة وكوادر بشرية وهياكل إدارية؛ تعاني من بطالة مقنعة وإنتاج ضحل كثيرا ما لا يتجاوز الفعاليات الموسمية والأنشطة الروتينية، وإن الإبداع غالبا ما يأتي على صيغة مبادرات فردية وبإمكانات متواضعة لا تقارن مع إمكانات التنظيمات والمؤسسات الكبيرة.

لعل مرد هذه المفارقة إلى ما أسماه الكاتب المصري أنس حسن، "المنطق التشغيلي"، إذ يتكون التنظيم من أنماط إدارية معقدة وهياكل بيروقراطية عتيقة، ومع مرور الوقت تتحول هذه الأنظمة الإدارية والهياكل إلى هدف تشغيلي مجرد، بمعنى أن الحركة تسعى في أقصى أهدافها للحفاظ على تشغيل مستمر للهيكل التنظيمي، ومع مرور الوقت تتعايش الجماعات مع مواقعها داخل المجتمع ولا تحاول فرض تحولات حقيقية بداخلها. تحاول إدارة "البقاء" والحفاظ على معادلة التشغيل، وهو ما "يحدث ضمورا كبيرا لمكانة التفكير والعقل والإنتاج الفكري في هذه الكيانات أمام أولوية "التشغيل" والاستمرار فيه" (الاقتباس من الكاتب أنس حسن).

التنظيم بطبيعته بيئة مضادة للإبداع، وذلك لغلبة المنطق التشغيلي فيه، وهو ما يضر بقوة حضور الرؤية الاستراتيجية. إذ لا يتوقع ممن يركز جهده في صياغة تقرير إداري أن يظل مجتمع القلب باتجاه الهدف الكبير، ومن يستنزف جزءا كبيرا من وقته وجهده في مناقشة التفاصيل سيبرد حلمه ويتكدر صفاء خياله، فتضعف اندفاعته. وهل كانت التغيرات التاريخية الكبرى إلا أحلاما وأخيلة جميلة آمن بها أصحابها؟

التنظيم مشروع للاستقرار أكثر من كونه مشروعا للمغامرة والثورة؛ لأن العمل التنظيمي يخلق في نفوس الأفراد ميلا إلى الأعمال الروتينية والمهمات السهلة التي لا تهدد سلامتهم الفردية. ومع تكريس التنظيم وطول الأمد به، ترتبط مصالح أفراده وقياداته باستقرار الواقع، فتتشكل قوة عكسية مضادة لنوازع الثورة تزن الخيارات بميزان مصالح التنظيم لا بميزان مصلحة الفكرة الأساسية التي أنشئ التنظيم من أجلها، وهنا يدخل الشيطان إلى النفوس من مدخل أن حماية التنظيم حماية للفكرة، وأنهم لا يحمون التنظيم إلا ليقربهم إلى الفكرة زلفى، تماما كما قال المشركون في القرآن عن أصنامهم: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى". وهذا ما يفسر لنا أن الدعوة إلى الثورات كانت تأتي بمبادرة من الشباب، وليس بدعوة من التنظيمات الكبرى، ذلك أن هؤلاء الشباب لا تقيدهم اعتبارات التنظيم وحساباته.

يؤمن الفكر التنظيمي بوحدة الرؤية وضرورة الالتزام بمعايير مشتركة بين أعضائه، وفي سبيل سعيه للظهور موحدا منضبطا، فإنه يعمل على تعزيز القواسم المشتركة وإخفاء أوجه الاختلاف بين أفراده. لكن الكائن الإنساني الذي خلقه الله على صورته هو فردي الجوهر، ليس تكرارا لغيره، وهو يحمل في داخله قابلية الإبداع، هذه القابلية هي منشأ الإبداع الفني، والقدرة على الإبداع الفني تعني فتح القدرات الإنسانية على احتمالات لا نهائية، وهنا يحل التعارض بين متطلبات التنظيم التي تريد إلزام الفرد في أطر محددة؛ وبين النداء المنبعث من روح الفرد يحثه على تحقيق ذاته.

يقارن علي عزت بيجوبتش بين روسيا في القرن التاسع عشر والاتحاد السوفييتي فيقول: "كانت روسيا في القرن التاسع عشر دولة فقيرة ونصف جاهلة، ومع ذلك استطاعت أن تقدم للعالم بوشكين وتشيكوف وتولستوي ودستويفسكي وتشايكوفسكي ورمسي كورساكوف. أما اليوم، ونحن في النصف الثاني من القرن العشرين، فلا تستطيع أن تشير إلى فنان واحد أو كاتب واحد على مستوى الكتَّاب والروَّاد في الأدب الروسي. لقد بدأ صعود نجم العِلم السوفييتي وانحطاط الفنون بعد قيام الثورة. فقد أنجبت روسيا السوفييتية علماء طبيعة وعلماء ذرة وسياسيين ومنظمين، ولكن لا شعراء ولا رسامين ولا مؤلفي موسيقا.." .

الفن هو نتاج حرية الروح، ومرد افتقار الاتحاد السوفييتي إلى الأدباء هو أن هذا الكيان أسس بنيانه على فلسفة شمولية أجبرت الناس على اعتناق مذهب واحد، وقتلت التعدد الطبيعي في المجتمع. والإبداع الفني لا يمكن أن يتجلى إلا في قلب إنسان حر قادر على التحليق في سماوات بعيدة والسباحة في بحار عميقة، فينفذ إلى أعماق النفس البشرية يجلي أسرارها وينصت إلى خلجاتها. إن الأدب لا يمكن أن تنتجه نفس مقيدة بالرواية الرسمية، فالأدب يقتضي حضور الجدل الإنساني والعمق والدراما، بينما الشخص المنظم غالبا ما تكون كتاباته فجة مباشرة، تعرف النتيجة التي سيصل إليها منذ الكلمة الأولى، لا مكان للمفاجأة؛ لأن ما يكتبه أقرب إلى البيان الصحفي التنظيري منه إلى القطعة الفنية.

الحزب الشمولي يقدم نفسه بديلا عن الصراع الإنساني والتوتر الدرامي، ويزعم أن لديه الإجابات القاطعة والحلول الكاملة لكل مشكلات النفس والحياة، وبذلك فليس على المنظَّم سوى أن يقتل أسئلة الوجود في داخله، وأن يحشو دماغه بالإجابات الجاهزة، فلا يظل في داخله مكان للقلق والبحث والسؤال. ومن الطبيعي بعد ذلك أن تتشكل شخصيته بطريقة آلية لديه إجابات مباشرة على كل معضلات الحياة، ولديه تفسير أحادي مختزل يغني عن الغوص والتعمق والتركيب.

بطبيعة الحال لم يخل الاتحاد السوفييتي من أعمال روائية إبداعية، وفي الحالة الفلسطينية عندنا مثال غسان كنفاني الروائي العظيم، مع أنه كان يشغل موقعا تنظيميا في الجبهة الشعبية، لكن هؤلاء أبدعوا بقوة الروح في داخلهم، إن غسان كنفاني الأديب العظيم ولد من رحم قوة إيمانه بوطنه وقوة شعوره بالظلم والقهر، وكان انشغاله التنظيمي بعد ذلك ملحقا تابعا، وكذلك الأعمال المؤثرة للروائيين السوفييت ولدت من قوة شعور أصحابها بعدالة القضية الأخلاقية التي نشأت الشيوعية من أجلها.

إن الإنسان في حالته الفوضوية يكون مدفوعا بالشغف والإيمان وقوة الحلم، فيتفجر الإبداع من بين ثناياه، بينما الفكر التنظيمي كثيرا ما يركز في علاقته مع الإنسان على التعليمات الخارجية، فتبرد حرارة اندفاعه ويؤدي عمله دون شغف.

ليس مطلوبا القضاء على التنظيم بطبيعة الحال، فالتنظيم يؤنس الفرد، وهو يمتلك من القدرة على التجميع والتحشيد والدعم المادي ما لا يملكه الأفراد، لكن المطلوب هو إعادة تعريف العلاقة بين الفرد والتنظيم ، فلا تكون علاقة احتواء واستعلاء على الأفراد بمنطق: "أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا"، بل علاقة استثمار للروح المبادرة في الأفراد وتعزيز لها.

إن الفرد ليس مجرد عنصر تنفيذي لقرارات التنظيم، فكثيرا ما يسبق العقل الفردي العقل الجمعي؛ لأن العقل الفردي أكثر تحررا وأقل قيودا، بل إن الفرد قد يساهم في تعزيز دينامية التنظيم. لذلك، فإن أمارة قوة التنظيم أن يتوسع ليشمل الفوضى الإنسانية ويقبل الأفراد كما هم، ما داموا يتفقون معه في الأهداف العليا، وأن تتراجع فيه مساحة التوجيهات الشمولية والتفاصيل التنظيمية، وأن يتحول إلى تنسيقية لجمع الجهود في اتجاه مثمر، بدل أن يكون إطارا مركزيا صارما.
التعليقات (0)