كتاب عربي 21

عصا موسى وذقن صلاح

طارق أوشن
1300x600
1300x600

في الوقت الذي كان فيه رئيس تحرير إحدى الجرائد يحضر مع فريقه لشكل التحقيق في قضية هروب منتصر عبد الغفار البدري في فيلم (الهروب – 1991) للمخرج عاطف الطيب، يرن الهاتف والخبر/ الأمر: وقف النشر بأمر النائب العام. نفس الاتصال الهاتفي تلقاه رئيس تحرير جريدة أخرى في فيلم (النوم في العسل – 1996) للمخرج شريف عرفة، يبلغه بأمر حظر النشر في قضية العجز الجنسي الذي تفشى في أرجاء المحروسة مهددا شعب مصر بالفناء. وهو الأمر الذي يتلقاه رؤساء التحرير والمذيعون والصحفيون كل يوم لتحديد أولويات السكريب اليومي للأخبار حظرا وإشاعة ونشرا.

تلك كانت ولا تزال طريقة أنظمة الاستبداد في مسعاها للتحكم في منسوب الخبر والمعلومة المراد إيصاله للشعب بالشكل الذي يمكنها من تكوين رأي عام موجه في اتجاه الضغط في قضايا أو الإلهاء بها أو التغطية على أخرى. كان ذلك أيام الجرائد الورقية، ولنا أن نتصور حجم الجهد وقوة التأثير في زمن الذباب الإلكتروني والمواقع المشبوهة والقنوات الفضائية المملوكة للمخابرات ورموز الأنظمة التي كرست سيطرة "غاشمة" للأجهزة الرسمية والحكومات على المجال الإعلامي.

عودة لفيلم الهروب..

يدخل مساعد وزير الداخلية إلى مكتبه مرفوقا بالعقيد فؤاد الشرنوبي، الملتحق حديثا بالوزارة بعد دورات تدريب قضايا بالولايات المتحدة الأمريكية.

العقيد فؤاد: الجرايد كلها نظيفة من ناحية القبض على منتصر.. مفيش ولا جورنال نشر خبر القبض عليه.

مساعد وزير الداخلية: النشر لسه ممنوع.. الجرايد اليومين دول بتطبل للمرأة الحديدية.. كل يوم مفيش وراهم غير المرأة الحديدية.. كيف هربت المرأة الحديدية؟ مين ورا هروب المرأة الحديدية؟

متصورين أننا احنا ايلي هربناها.. الجرايد عاوزة خبازة وتشبع فيها لطم.. تصور يا فؤاد، لغاية دلوقتي فيه خمسة استجوابات في مجلس الشعب عن هروب الست ده.

العقيد فؤاد: طيب.. أنا عندي اقتراح يا أفندم.

مساعد وزير الداخلية: قوول!

العقيد فؤاد: حضرتك لو اترفع حظر النشر عن قضية منتصر حنشغل الرأي العام.. هي دي عصا موسى ايلي حتبلع كل التعابين.

وكذلك كان..

لم يعد للرأي العام من شاغل غير قصة هروب "السفاح" منتصر فهذا صاحب مخبز يستمع لطفل صغير يقرأ له من الجريدة عن قصة الهروب متجاهلا الخبر الأهم وعنوانه: ما الذي تم في تجربة الفصل بين صنع الخبز وتوزيعه؟

إشغال الناس عن مشاكلها الحياتية اليومية وعن الفشل الذي تواجهه الدولة في قضايا التنمية والأمن و"استئصال الإرهاب" بقصص جانبية تتصدر الأخبار والشاشات، قبل أن تختفي كما ظهرت بالضبط دون سبب واضح، صار لعبة في أيدي موجهي وسائل الإعلام من فصيلة الضابط أشرف الخولي، فلكل دولة أشرفها ولكل جهة خولييها. تعددت الأسماء ومسرحية الإلهاء نسخة أصلية تتنوع تفاصيلها وشخوصها دونما تأثير على الطرق والأهداف. جراب "الحاوي" لا يخلو من ألاعيب ومفاجآت.
تزامنا مع عودة الألتراس أهلاوي إلى رفع الصوت عاليا في مواجهة النظام صادحا بلازمة "حرية.. حرية"، التي تقض مضجع حكم أراد لنشيد الصاعقة المصرية "قالو إيه" أن يتحول لوجبة يومية إلزامية، فكان رد مدرجات استاد القاهرة صوتا نشازا عن حفلة الزار "الوطنية" المشيدة بالإنجازات والصادحة بعبارات الولاء والتبريك، على أعتاب "انتخابات" تكرس لتثبيت أركان الانقلاب، كان لزاما على "أشرف بيه" البحث في جرابه عن عصا تشغل الرأي العام عن متابعة فصول تسليم إدارة النادي الأهلي لبيانات الجمهور الحاضر للمباراة إلى الأمن مساهمة منه في اعتقال "الجناة". توزعت تهم المعتقلين بين تولي قيادة جماعة إرهابية، أو الانضمام إليها تطبيقا لحكم قضائي سابق صدر في العام 2015 بحظر جميع روابط مشجعي الفرق الرياضية المصرية المعروفة بـ"الألتراس". الحل كان في استحضار عصا/ قلم منتصر آخر، غير منتصر فيلم الهروب، صلاح لم يجد في الأوضاع الحياتية للمصريين من موضوع يهتم به غير ذقن وشعر صلاح آخر هو محمد صلاح.

ولأن محمد صلاح "لم يعد مجرد لاعب كورة أو فردا ملك نفسه بل نموذجا لبلده" فقد كان منتظرا أن تتحول نصيحة منتصر له بحلق لحيته الكثيفة وتعديل تسريحة شعره المنفوش خبرا يتصدر كل العناوين والشاشات مستأثرا باهتمام "الخاصة" والعوام. لقد صار حلق لحية اللاعب المصري هدفا قوميا والدفاع عنها واجبا وطنيا، إذ في الوقت الذي صار فيه أطفال بريطانيا العظمى يقلدون لحية صلاح دونما خوف من أن يصنفوا في دائرة الإرهابيين أو موالاتهم، ارتأى صلاح، المرتعب كغيره ممن يوجهونه بالكتابة، من لحية صارت مع الأمر الواقع رمزا "دينيا" أو "إخوانيا"، مطالبة نجم الجماهير بالظهور بمظهر ابن النيل، الفلاح المصري الأصيل، الذي يحلق بالمناسبة ذقنه كل صباح على أنغام نشيد الصاعقة وتسلم الأيادي.

جماهير ليفربول سخرت قبل أسابيع من عرض تلقاه النادي بشراء نجم الفريق مقابل خمسين مليون جنيه إسترليني معتبرين أن ذقن صلاح لوحدها أغلى من المبلغ المقدم لشرائه. الأكيد أن مشكلة منتصر ونظامه الانقلابي أساسه رمزية "اللحية" التي صارت بالنسبة إليهم أصلا تجاريا يساومون به الغرب المتوجس من "إرهاب" التصق في مخيلتهم بالذقون المتدلية، فصارت نماذج صلاح وغيره تهدد تجارتهم بالبوار. المسألة إذن، وإن كانت مجرد إلهاء للداخل في صراعات لا معنى لها، تحمل بعدا جديا لتمرير رسائل للاعب أن "احلق لحيتك بالأمر" في دولة صار فيها كل شيء يتم بالأمر المباشر دونما حاجة لمساحيق أو إطفاء كاميرات.

وللتذكير بالخطر الإرهابي، كان لابد من إظهار ذقون أخرى في المشهد تتوافق والصور النمطية التي يتم الترويج لها، وهو ما تصدى له محمد الباز، الذي احتفل قبل أيام باسترداد محمد بن سلمان لله من المتطرفين، بإذاعته تسريبا صوتيا لشيخ سلفي يدعو فيها نفس اللاعب، ويا للمصادفة، إلى العودة إلى الله والإقلاع عن ممارسة كرة القدم بما تحمله من خطيئة كشف الفخذين، التي لا تغني عنها سجدات اللاعب عقب أهدافه التي تمطر شباك الخصوم مدرارا. هكذا يكتمل المشهد ويصبح لمقال صلاح منتصر معادل سمعي بصري، يجعل من نتف لحية نجم المنتخب القومي أمرا واجب النفاذ، نأيا بالنفس عن شبهة الترويج لأمثال هشام البيلي وأتباعه السلفيين و"لاسترداد النجم العالمي لحضن الوطن مرة أخرى".

 التحنيط والتنميط، على طريقة كوريا الشمالية، مسلسل تتوالى حلقاته وستنتهي لا محالة بمنتخب الفراعنة لابسا البزة العسكرية ومنتظما في الطوابير مرددا نشيد "قالوا إيه" بدلا عن النشيد الوطني في مباريات المونديال. أقل من ذلك لن يقبل من اللاعبين لإظهار ولائهم للوطن وللزعيم. وفي الانتظار ستتوالى الحكايات وتتناسل الإشاعات وتظهر التسريبات ويستمر الجمهور متسمرا أمام أجهزة التلفاز كأنه مجرد جثث مسجاة يتولى أحمد موسى وأشباهه مهمة تغسيلها وتكفينها واستعادتها للحضن الوطني الحنون.

إلى نفس الغرفة، يدخل مساعد وزير الداخلية إلى مكتبه مرفوقا بالعقيد فؤاد الشرنوبي في فيلم الهروب.

مساعد وزير الداخلية: كان عندك حق لما قلت أنها عصا موسى.. حتى استجوابات مجلس الشعب خلاص مبقالهاش قيمة لأن مفيش ضغط إعلامي بس مش ملاحظ أن المسألة زيادة شوية وواخدة أكثر من حجمها.

العقيد فؤاد: في ايدينا يا افندم.. تحب سعادتك نستصدر قرار بوقف النشر.

مساعد وزير الداخلية: لألأ.. خليها يومين كمان وبعدين نبقى نوقف النشر.

العقيد فؤاد: تحت أمر سعادتك.. وهي ورقة بايدينا ننزل بيها وقت ما احنا عاوزين ونخبيها وقت ما نحب.

0
التعليقات (0)

خبر عاجل