كتاب عربي 21

منظومة التمييز والتبعية والقمع التي قسمت التونسيين

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600
تجدد الجدل في تونس حول العدالة الانتقالية، وهذه المرة في سياق رفض أقلية من النواب لم يتجاوز عددهم السبعين (من 217 نائبا) في رفض التمديد سنة أخرى لهيئة الحقيقة والكرامة، المكلفة بتنفيذ ومتابعة العدالة الانتقالية. الحملة الممنهجة استهدفت دائما رئيسة الهيئة سهام بن سدرين، وهي مناضلة حقوقية قديمة ضد الاستبداد، لكن في الحقيقة تطرح تساؤلا حول وجود العدالة الانتقالية نفسه.

فرغم تكرار نواب أحزاب المنظومة القديمة (نداء تونس، المشروع، آفاق) أنهم "مع العدالة الانتقالية" فإن هناك تكرارا لفكرة أساسية تنسف مبدأ العدالة الانتقالية وهو أن بن سدرين "تقسم التونسيين"، كأن العدالة هي التي تقسمهم وكأنهم ليسوا منقسمين أساسا بسبب منظومة الحكم التي هيمنت على البلاد منذ ستين سنة. إنكار الانقسام الناتج عن منظومة التمييز والتبعية والقمع، منظومة استغلال الدولة من قبل أقلية وتسخيرها لمصلحتها على حساب المجموعة العامة، هو حجز الزاوية في النقاش الحالي.

لنبدأ أولا بنسف الأسس القانونية لعملية قطع الطريق التي قامت بها هذه المنظومة الأسبوع الماضي، وهو ما قام به خبراء قانونيون مثل قيس سعيد وجوهر بن مبارك. مثلا بين سعيد في تصريح لموقع "حقائق أون لاين" اليوم الأربعاء 28 مارس 2018، أنه بناء على القانون الأساسي المتعلق بالعدالة الانتقالية وعلى الفصل 18 منه فان قرار التمديد يعود لمجلس هيئة الحقيقة والكرامة، وفعل الرفع إلى البرلمان يشير إلى الإعلام وليس أكثر من ذلك، وفق تعبيره.

وتابع: "لا يوجد في أي نص وفي أي دولة قرارات لهيئات وطنية تتم المصادقة عليها من السلطة التشريعية".


هذا الإصرار على ضرب العدالة الانتقالية وخاصة محاولة منع هيئة الحقيقة والكرامة استكمال تقريرها الختامي الذي سيكون بمثابة "تاريخ رسمي" جديد لتونس يعيد الاعتبار لضحايا الدولة على مدى ستين سنة. وأيضا محاولة منعها من إعادة محاكمة الجلادين خاصة بعد تجاهلهم لاستدعاءات الهيئة للاستماع اليهم وصدور عدد من الأحكام المخلة بحقوق الضحايا وتبييض أسمائهم.

حالة الهستيريا تعود أيضا إلى تأثير جلسات الاستماع العلنية في الرأي العام إذ سلطت الأضواء على الزوايا المظلمة في صورة "الدولة الوطنية" التي يوجد ما يشبه التقديس لها سواء لدى النخبة أو عموم الناس. هذا التأثير يبدو بشكل خاص في استبيان حول العدالة الانتقالية تم نهاية 2017 عبر عيّنة تتكوّن من 3045 شخصا تمّ اختيارها تحت إشراف المعهد الوطني للإحصاء.

بعض الأسئلة والأجوبة الواردة في هذا الاستبيان:
س/ قبل جلسات الاستماع العلنية، هل كان لديك علم بالانتهاكات الحاصلة زمن النظام السابق؟
ج/ 26 % قالوا "لم تكن لديهم أي فكرة عن الانتهاكات". و70 % قالوا إنهم كان على علم بشكل عامّ وليس تفصيليا.
س/ لأي مدى أثّرت جلسات الاستماع في موقفك من النظام القديم؟
ج/ 53 %أثرت الجلسات فيهم بشكل متوسط و37.5 % في المئة بشكل كبير.
س/ ما هو موقفك من النظام القديم قبل جلسات الاستماع؟
ج/ 43.4 % لديهم موقف معتدل، و28.4 % لديهم موقف سيئ و20.4 % لديهم موقف سيئ جدا والبقية أي 7.9 لديهم موقف جيد أو ممتاز
س/ ما هو موقفك من النظام القديم بعد جلسات الاستماع؟
ج/ 13.1 % لديهم موقف معتدل، و24.5 % لديهم موقف سيئ و59.3 % لديهم موقفهم سيئ جدا والبقية أي 3 % لديهم موقف جيد أو ممتاز.
الحصيلة ساهمت جلسات الاستماع العلنية في:
- توعية 1/4 التونسيين بالانتهاكات الحاصلة زمن النظام القديم.
- التأثير في 90.5 % في تحديد موقفهم من النظام القديم وذلك بصفة متباينة.
- ارتفاع نسبة الموقف السلبي من النظام القديم من 48.8 % إلى 83.3 % بين قبل جلسات الاستماع وبعدها.
- تضاعفت تحديدا نسبة الموقف "السيئ جدا" من النظام القديم بثلاثة أضعاف وذلك من 20.4 % إلى 59.3 %.

العدالة الانتقالية ليست سبب الانقسام. الانقسام حاصل وهو المصدر الرئيسي للانتفاضات الشعبية طيلة كل هذه العقود إلى ثورة 17 ديسمبر-14 كانون الأول. وهو ناتج عن سياسة منظومة الحكم الممنهجة لممارسة التمييز ضد جهات وفئات اجتماعية. والتبعية في القرار الوطني بدأت منذ التأسيس للدولة وهناك شبهات جدية بالسماح بممارسة التدخل المستمر في قرارات سيادية تخص استغلال الثروات الطبيعية في اطر تحيل على الفساد وغياب الشفافية وعقد اتفاقيات قضمت باستمرار هذه السيادة وكذلك ضربت المصالح الوطنية بما في ذلك اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. وأخيرا منظومة قمع عنيفة مارست القتل بالرصاص الحي (خلال الانتفاضات الاجتماعية) وبالتعذيب والإبعاد وتشتيت العائلات والاغتصاب.

المنطق الذي يقول إن العدالة الانتقالية تقسم التونسيين هو كمن يقول "صمت نحن نصور" (silence on tourne)، وهو ما يعني عمليا محاولة فرض الصمت لمواصلة التطبيع مع هذه السياسة. كشف الحقيقة وفرض الصمت هو التباين الحقيقي بين الرأيين. وموقف الرئيس الحالي قائد السبسي كان يعارض منذ تضمين العدالة الانتقالية في الدستور هذا التوجه. وكان يتم توظيف التجربة الجنوب أفريقية وسمعة مانديلا للدفع عن التخلي عن العدالة الانتقالية، في حين الأخيرة تم انتقادها وخاصة تساهلها مع الجلادين من قبل اقرب المقربين من مانديلا.

المتضررون من تسليط الضوء على أسباب الانقسام هم من يواجهون العدالة الانتقالية. غير أنهم يحاربون التاريخ بلا جدوى.
0
التعليقات (0)