كتاب عربي 21

شاهد على المغرب

جعفر عباس
1300x600
1300x600

والمغرب هنا زماني، وليس مكانيّا، بمعنى أن المقصود بالكلمة، ليس المغرب الجغرافي-السياسي، ممثلا في دولة أو إقليم في شمال أفريقيا، بل مغرب وأفول الشمس، ولكن بالمعنى المجازي للكلمة.

 

والشاهد على المغرب، شاهد بالضرورة على العصر (الزماني)، الذي نحن فيه في خُسر، وجيلنا هو ذلك الشاهد الذي شاف كل حاجة.

 

فتحنا أعيننا على الدنيا على هدير طبول الوحدة العربية، ودوي قذائف حروب التحرير في اليمن الجنوبي والجزائر، وبنزرت (في تونس والتي ترك الفرنسيون فيها مسمار جحا وظلت قواتهم مرابطة فيها حتى بعد خروج تونس من عاصمتهم فحمل التونسيون السلاح وحرروها).

كان جمال عبد الناصر هو شيخ الطريقة لأبناء وبنات جيلنا، وكان الاستماع لخطبه "نافلة قومية مستحبة"، وخرج بعض حواريي ناصر عن طريقه، وأسسوا مدرسة أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، فقلنا: كل حركة فيها بركة.

ولم يكن ناصر ديكتاتورا إلا في نظر الشيوعيين، لبعض الوقت ثم الإخوان المسلمين لمعظم الوقت، ولحين من الدهر اعتبره الشيوعيون عميلا للولايات المتحدة، بينما ظل في نظر الإخوان المسلمين، عميلا للسوفييت طوال السنوات الـ 16 الأخيرة من حكمه.

وبمقاييس أواخر القرن العشرين وما بعده، كان ناصر ديكتاتورا، لأنه صار، وبحكم الدستور المعمول به وقتها، رئيسا مدى الحياة، ولكنه كان ديكتاتورا "نشازا"، لأن الديكتاتوريات كاملة الدسم التي عاصرها، كانت ذات أنياب وأظافر أمريكية، فقد كانت واشنطن راعية النظم الديكتاتورية الوحشية في جميع القارات.

فبذريعة مناهضة الشيوعية، نصّبت واشنطن العديد من الطواغيت في العديد من البلدان، وأمدتهم بالمال والسلاح والخبرة في قمع المواطنين، ولكنها (واشنطن) ظلت تعتبر كل حاكم يخرج عن بيت الطاعة الأمريكي طاغية، ينبغي التخلص منه.

 

وهكذا شهد جيلنا تساقط أبطال حركات التحرير الذين قادوا بلدانهم للاستقلال يتهاوون الواحد تلو الآخر، بتدابير أمريكية: وهكذا راح فيها كوامي نكروما في غانا، وأحمد سوكارنو في إندونيسيا، وسيكوتوري في غينيا، وموديبو كيتا في مالي وغيرهم

 

 

 

وعلى الرغم من أنه لم يكن هناك بلد عربي واحد يعرف الديمقراطية النيابية، التي تقضي بالوصول إلى الحكم عبر صناديق الانتخابات (لبنان والسودان كانا يمارسان الديمقراطية الوراثية المعتادة، ففيهما بيوت تحتكر الحكم والمعارضة حسب الظروف).

رغم ذلك، فقد ظل المواطن العربي متفاعلا مع الأحداث السياسية، حتى أواخر سبعينيات القرن الماضي، فكانت تخرج المظاهرات لنصرة قضايا وطنية/ قومية عامة، او استنكارا لأمر ما يتعلق بمصائر الشعوب، وهكذا، خرج الملايين مناصرين لمصر ضد عدوان إسرائيلي فرنسي بريطاني عليها (1956)، وللجزائريين في حربهم الباسلة ضد الاستعمار الفرنسي.

بل إن الهزيمة المنكرة التي مني بها الجيشان المصري والأردني في حزيران/ يونيو 1967، (الجيش السوري هرب من الحرب واحتمى بدمشق وقدم هضبة الجولان هدية باردة لإسرائيل). نجح ناصر في تحويلها إلى نصر معنوي.

اعترف ناصر بالهزيمة (وإن أطلق عليها اسم دلع هو "النكسة")، وأعلن عن تنحيه عن الحكم، فخرجت جماهير "من المحيط الى الخليج" تجدد له البيعة، وبعد الهزيمة بشهور قليلة تم استقباله في الخرطوم استقبال الفاتحين، وربما كان ذلك من باب "حنانيك بعض الشر أهون من بعض".

ولا يجوز تبخيس الشعوب التي ناصرت ناصر، رغم جرح الهزيمة الذي تسبب فيه، عندما وعدهم بأداء صلاة العصر في تل أبيب، ثم فوجئت بأن الإسرائيليين كانوا على وشك دخول الأزهر، لولا إنذار الزعيم السوفييتي بولغانين بضرب إسرائيل بالصواريخ إذا عبرت قناة السويس غربا.

لا يجوز تبخيس تلك الشعوب واعتبار أنها كانت تتصرف بعقلية قطيع عقله في أُذُنيه، فرغم أنه صحيح أن ناصر، وبلغة المصريين، كما جاء في فيلم "قلب الأسد": عمل لنا البحر طحينة/ وكتبنا عليه أسامينا / من فوق الموج عدينا/ ولا حاجه تأثر فينا/ ... وهقولك حزر فزر / اسرح بس اوعى تفكر.

رغم ذلك، فقد قدم ناصر بضاعة لقيت القبول عند المصريين وعموم العرب: الإصلاح الزراعي، وتأميم قناة السويس، والسد العالي، وجلاء الإنجليز من الإسماعيلية، ومناصرة حركات التحرر و"الثورات" في العالم العربي وما وراءه.

(حقق فيلم "ثورة في باونتي" نجاحا مدويا في الستينات، ويحكي الفيلم وقائع تمرد حقيقي على السفينة الإنجليزية باونتي، التي كانت في طريقها من جزر الهند الغربية إلى تاهيتي، قاده فليتشر كريستيان، ضد القبطان وليام بلاي الذي كان شديد الفظاظة.

وبعيدا عن تفاصيل التمرد (ميوتِنِي بالانجليزية) الذي تحول إلى "ثورة" في الترجمة العربية للرواية والفيلم المتعلقين بتلك الواقعة، فقد سرت طرفة في مصر عندما كثر الحديث عن الفيلم في وسائل الإعلام ،بأن عبد الناصر أصدر بيانا بأن مصر تقف مع ثوار باونتي وتعتبر أي عدوان على باونتي عدوانا على مصر).

واليوم: ما عاد للمواطن العربي حق سوى استنساخ الهتاف المسخ: بالدم والروح، نفديك يا دحدوح، بل ما عاد العرب عموما "يقرأون"، ومتابعة نشرات الأخبار صارت فرض كفاية، وما عاد القادة العرب فاعلين، بعد أن أعطوا توكيلات لموسكو وواشنطن، وعادوا طرفا في حرب باردة تنذر بجعلنا من الشعوب البائدة.

وإجهاض انتفاضات ما يسمى بالربيع العربي، خير شاهد على عصر الغروب، الذي تعقبه ليال كالحات السواد، ولكن لابد لليل أن ينجلي، و "لو دامت لغيرك لما آلت إليك".


نعم نحن الآن في نفق مظلم، لا نرى في طرفه البعيد نورا، كالذي كنا نراه أو نتوهم أننا نراه في العقدين الأولين من النصف الثاني من القرن العشرين، وهو نفق مسكون بزواحف من ذوات الدم البارد، تتربص بكل من يحاول العبور الى حيث النور.

ولكن وفي نهاية المطاف: لن تفلت الأفعى، وإن حشدت أساطيل الجحيم وحصنت أوكارها، وحتما سيأتي يوم تشعل فيها الثورات على المآذن نارها، وقد تطول وقفة شعوبنا خلف المتاريس وفي الخنادق، ولكننا حتما "سنذيقهم جرحا بجرح/ ودماً بدم/ والظلم ليلته قصيرة".

على ذمتي، وذمة شاعر السودان الكبير محمد المكي إبراهيم.

التعليقات (0)