قضايا وآراء

فلسفة وانتقام.. قصة هتلر ونازيته

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
تؤكد الكثير من الدراسات أن الفكر النازي كأيديولوجية قومية متطرفة لم يأت في لحظة إلهام مباغتة حطت على هتلر ذات مساء في ليالي فيينا، إنما كان فكرا تؤمن به جموع كبيرة من الشعب الألماني، ويستند لفلسفة وأيديولوجيا يقف وراءها فلاسفة ومفكرون كبار، أمثال إيمانويل كانط وفريدريك شيلر وآرثر شوبنهاور وفريدريك هيجل ويوهان فيخته، وموسيقارهم الثوري العنيف ريتشارد فاجنر.. وطبعا فريدريك نيتشه.

فيخته وشوبنهاور ونيتشه سيوصفون بأنهم "السلطة الفلسفية الثلاثية للاشتراكية الوطنية"، والتي هي جوهر النازية. ولا يفوتنا هنا أن نذكر التأثير الكبير لفاجنر على نيتشه، وعلى كل إيحاءاته وخيالاته التي كانت إلهامات للأفكار التي وجدت لها مجالا واسعا في الدماغ الألماني الشعبي والثقافي عن التفوق والسيادة. صحيح أن هذه الأفكار تم فهمها واستيعابها بعقل وفهم وقت قراءتها لا وقت كتابتها، لكنها كانت في النهاية أفكارا وفلسفات أضفت مشروعية عريضة على تحرك تاريخ ضخم اجتاح الأمة الألمانية.

يقولون إن الفكر هو الذي يوجد الأشياء، وهو الذي يجعل الشيء حسنا أو سيئا، حيث اللامكان هو المكان، واللاوعي هو الوعي، واللازمن هو الزمن.. وهذا صحيح بدرجة كبيرة، وقد رأينا ذلك في قاطرة المفكرين والفلاسفة التي سارت بالعقل الألماني إلى أمام الأمام في رؤيته لنفسه وللدنيا من حوله، والألمان بطبعهم مزاجهم فلسفي كما يوصفون. لكن ذلك كله شيء، والحرب العالمية الأولى وما أنتجته تلك الحرب على الأمة الألمانية ماديا ووجدانيا؛ شيء آخر، وبإمكان أي إنسان أن يستنتج ببساطه أن كل هذه الأفكار والفلسفات ما كانت لتغادر البهو الأكاديمي إلى دنيا السياسة والحرب لو لم تنته الحرب العالمية الأولى إلى ما انتهت إليه من نتيجة.

سيقوم هتلر الذي كان جنديا في الحرب العالمية الأولى؛ بعد أربع سنوات بانقلاب 1923م ويفشل، ثم يأتي بعد تسع سنوات، ولكن هذه المرة بـ"السياسة"، وبعد أن يكون قد فهم كثيرا مما كان خافيا عليه في البيروقراطية الألمانية العتيقة، وبعد الشهور التي قضاها في سجن لاندسبرج عام 1924م عقب الانقلاب. والطريف أنه كان يصف فترة سجنه تلك بأنها دراسة تكفَلت الدولة بمصاريفها. فقد كانت أيام السجن الطويلة المنقضية في بطالة جبرية؛ فرصة مثالية للقراءة والتأمل، وخلال تلك الفترة تبحّر هتلر في القراءة، وتوصّل إلى فلسفة ذلك الزمان في ألمانيا، والتي وجهت مسار كل حياته اللاحقة، لكنه أضفى بها شرعية على حلمه المريع، وكتب خلال تلك الفترة كتابه الشهير "أربع سنوات ونصف من الكفاح ضد الأكاذيب والغباء والجبن" الذي تغيَر فيما بعد إلى "كفاحي".. في الكتاب أعلن الرجل عن فلسفته الخاصة تحت عنوان "الحركة الاشتراكية الوطنية".

بعد حصوله على الجنسية الألمانية (هتلر نمساوي على فكرة) وترشحه للانتخابات عام 1932، وعقده اتفاقا مرعبا مع "الدولة العميقة" - كما ذكرنا قبلا - وهم "رجال الصناعة وجنرالات الجيش" والذين كانوا قد ضاقوا بالإنهاكات المالية وتعويضات الحرب باتفاقية فرساي.

امتلك هتلر في قبضة يديه أسرار الدولة وسراديبها العميقة ومفتاح دولابها الضخم، لكنهم (رجال الصناعة والجنرالات)، والحق يقال، اشترطوا عليه أن يتخلص من قوات "العاصفة" التي كانت ضمن تشكيلات الحزب "القومي النازي"، وفعل الرجل وتسلم الحكم. وصدق من قال إن الحرب العالمية الثانية "أكثر الصراعات دموية في التاريخ الإنساني- 70 مليون قتيل" بدأت يوم انتهاء الحرب العالمية الأولى، ذلك أن مرارة الإذلال الذي ذاقه الألمان ما كانت لتمر دون أن تكون لها آثارها التي تتناسب مع تلك المرارة والإذلال.

اتفاقية "فرساي" التي كتبت عقب الحرب الأولى، لم تكن مجرد "وثيقة" لترتيبات حالة ما بعد حرب لفريقين أحدهما منتصر والآخر منهزم، كما ويحدث دائما في التاريخ، لكنها كانت بالأساس وثيقة إذلال وهدم ومحو لكيان الأمة الألمانية. تفاصيل مرعبة تذكرها نصوص الوثيقة.. لا أدري كيف تصور الساسة وقتها إمكانية قيام "مستقبل" مستقر يعم فيه السلام ربوع العالم، وفي القلب منه القارة الأوروبية! الساسة الذين نتحدث عنهم ليسوا كأي ساسة في أي وقت، أنت هنا تتحدث عن أسماء بحجم كلمنصو ولويد وويلسون، وأسماء أخرى اكتسب تاريخ تلك الفترة خصائصه وتحولاته من أفكارهم وقراراتهم. ومن يريد من الدهشة والذهول أكثر وأكثر في هذا المعنى يرجع لما تم في "صالة المرايا" بقصر فرساي في باريس، حيث تم توقيع وثيقة الانتصار في مقطورة "فوش" على نهر السين، حيث باريس المتلألئة بأنوار النصر إمعانا في إذلال الجنرالات الألمان المهزومين.

سيمر عقدان من الزمان، وتتبدل الأطراف في مقطورة "فوش"، حيث يصر هتلر على أن توقع وثيقة "سقوط باريس" في نفس المكان، الإذلال بالإذلال والقهر بالقهر والخضوع بالخضوع. إنه كتاب البشر وما تحويه صفحاته من سطور الغرائز والشهوات والثارات والانتقامات.

سينتصر الحلفاء في الحرب الثانية، ويكونون قد استوعبوا تماما الدرس الرهيب، وأوقفوا هذا الهراء التاريخي الأهطل المعروف بـ"إذلال المهزوم"، ولم يفعلوها ودخلت أوروبا بعدها الحقبة الجميلة لتغني نشيدها الاتحادي "نشيد الفرح" من أشعار شيلر وألحان بيتهوفن والاثنان ألمانيان!!

هتلر ولد في 20 نيسان/ أبريل ومات في 30 نيسان/ أبريل، وهو ليس فقط الــ56 عاما التي قضاها في الحياة، وليس فقط الــ12 عاما التي قضاها في السلطة.. هتلر كان بالفعل من أهم الشخصيات التي تركت أكبر أثر في تاريخ البشرية في القرن العشرين. لكن الأهم من كل هذا هو أن شخصية هتلر وأفكاره ورجاله وتنظيماته موجودة في كل وقت وكل زمن، فقط تنتظر الظرف التاريخي الذي يأتي وتأتي معه اكتمالاته من بشر وفكر يحمله هؤلاء البشر. ستأتي الأزمان تلو الأزمان، وتأتي معها بعشرات "الهتلرات" الذين تمتلئ رؤوسهم وصدورهم بالمرارة والهزيمة والإحساس بالذل والرغبة الثأرية العارمة في الانتقام بمثل ما امتلأت به نفوس الألمان، فلاسفة وعسكريين ونخبة وعوام.. شهوة الانتقام أيها الأصدقاء من أبشع شهوات الإنسان. جريدة واشنطن بوست ذكرت في إحدى تحقيقاتها أن فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية على سبيل المثال؛ كان حالة "انتقام". انتقام ذوي البشرة البيضاء المنتمين إلى الطبقة العاملة بعد أن شعروا بالتهميش في ظل تمدد العولمة الاقتصادية.

سنشهد دائما فصولا مأساوية لتجليات "شهوة الانتقام" والتي سرعان ما ستجد أيديولوجيات وفلسفات تؤسس لها وتنظر لها عميقا وبصلابة فتصنع منها واقعا فكريا وسياسيا وحركيا وتنظيميا، واقعا تتلقاه الدنيا والناس بمثل ما تلقت من الشراسة والعنف التي خرج بها هتلر والحزب النازي إلى الدنيا. وعلى الإنسانية كلها أن تدفع الثمن غاليا، دما ونفوسا، حضارة وعمرانا.
التعليقات (0)