كتاب عربي 21

عن العولمة كفضاء للمواطنة العالمية

يحيى اليحياوي
1300x600
1300x600
عندما نتحدث عن العولمة، فإننا لا نتحدث فقط عن ظاهرة اقتصادية، تحتكم للسوق "قيما" و"سلوكا" وممارسة، بل نتحدث أيضا عن ظاهرة تحيل على الثقافة والمجتمع، وتنهل من معين السياسة والمجال العام، باعتباره ساحة تتمظهر من بين ظهرانيها سلسلة من الحقوق والواجبات.
 
ولذلك، فعندما نتكلم عن المواطنة، في ظل تزايد مد العولمة وتمدد فاعليها، فإننا إنما نتكلم عن مآل هذه السلسلة، وعن مصير المضامين السياسية التي لازمتها.
 
كائنة ما تكن تحقيباتنا للعولمة، فإن المواطنة سابقة لها وعليها. إنها سابقة عليها في المكان والزمان، وسابقة عليها كمجال للفكر والتفكير، وسابقة عليها، فضلا عن كل ذلك، في ضروب الفعل والتفاعل مع الاقتصاد والسياسة والمجتمع وغيرها.
 
فالعولمة كانت منذ البدء (ولا تزال إلى يومنا هذا) إحدى روافد النظام الرأسمالي القائم، بل هي نتاج مراحله المتقدمة، لا يمكن أن تنتفي إلا بانتفاء عناصره، ولا يمكن أن تتقوض إلا بتقوض مكوناته، المادية منها كما اللامادية على حد سواء.
 
وإذا كانت المواطنة قد صيغت في بداياتها الأولى داخل الفضاءات الوطنية الضيقة، كتعبير عن ضرورة ضمان حقوق الأفراد والجماعات وتسطير واجباتهم نصا وممارسة على الأرض، فإنه سرعان ما أصبح لمبادئها هاته امتداد عالمي، لم تسلم من "عدواه" لا أنظمة الحكم ولا الدساتير التي تؤطر مجال وحدود ذات الأنظمة.
 
بالتالي، فلم يكن يحد من ترجمة مبادئها على المستوى العالمي إلا مستوى أخذ أو عدم أخذ الأنظمة والدساتير إياها بها، وإعمال (من عدم إعمال) ذات المبادئ في توجهاتها السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها.

لم يكن أفق و"معدل" الديمقراطية القائم بالدول (مختلف دول العالم) هو المحدد الوحيد لأفق ومعدل المواطنة، ولم يكن العامل الداخلي هو المهيمن في تحديد ذات الأفق، بل أضيفت إلى ذلك معطيات عالمية كبرى تعتبر ظاهرة العولمة أقواها وأشدها؛ لأنها أفرزت إكراهات ومتطلبات جديدة، لم يعد ثمة من مناص لذات الدول إلا الأخذ بها، أو مواجهة مصير الإقصاء والتهميش من دورة الإنتاج والاستهلاك القائمين.
 
وعلى هذا الأساس، فلم توضع المواطنة يوما على المحك حقيقة، إلا حين برزت العولمة واتسع فضاؤها، وتقوت أدوات الاشتغال لدى فاعليها، الاقتصاديين منهم كما المؤسساتيين على حد سواء.
 
والواقع أن ظاهرة العولمة لم تستهدف المواطنة في حد ذاتها أو لذاتها، من خلال استهداف مبادئها الكبرى مثلا (لا سيما جانب الحقوق فيها)، بل صبت استهدافها بالتحديد، على المؤسسات والقيم التي انبنت عليها المواطنة إياها لسنين طويلة.
 
بالتالي، فلما كانت مبادئ المواطنة "العالمية" هي، في الشكل كما في الجوهر، امتداد لأشكال المواطنة "المحلية" (أو الوطنية)، فإن ما طال هذه الأخيرة ما فتئ، بحكم منطق الأشياء، يطال الأولى، يؤثر فيها ويطبع تجلياتها.
 
وعلى الرغم مما قد يكون إسهاما للعولمة في تكريس المواطنة "العالمية"، كونها تدفع بالمزيد من الحرية في الفعل وفي سبل التنقل والتعبير، وكونها تنحو بجهة تسييد الانفتاح والدمقرطة والتواصل، على الرغم من هذا أقول، فإن عوامل التضاد والممانعة بين العولمة والمواطنة "العالمية" هي أقرب إلى التكريس منها إلى عوامل الالتقاء والتكامل.
 
وبناء على ذلك، فإننا نتصور أن ثمة أربع معطيات جوهرية على الأقل، تجعل من علاقة العولمة والمواطنة "العالمية" علاقة تضاد وممانعة، أكثر منها علاقة التقاء وتواصل وتكامل:
 
- المعطى الأول ويتمثل في التوجه المستمر والمتسارع للعولمة في نزوعها إلى تدمير المقومات الكبرى التي ارتكزت عليها الدولة/ الأمة، في تشكلها، وفي صياغة آليات اشتغالها.
 
لا يروم التلميح هنا فقط إلى منحى السياسات العمومية التي باتت تستهدف تقليص حجم ودور الدولة إلى ما طالب به، منذ قرون عدة، فقهاء الاقتصاد السياسي الليبرالي، ولا فقط إلى منطق اقتصاد السوق الخالص الذي يدفع به فاعلو العولمة الكبار، ولكن أيضا إلى ممارسات الشركات الكبرى التي تقدم، عكس فلسفة المواطنة، مبادئ الواجبات على مبادئ الحقوق، سيان لديها في ذلك أكان فضاء الاشتغال عالميا واسعا، أم محليا/ إقليميا أقله سعة واتساعا.
 
من هنا، فبقدر ما تزداد، في ظل العولمة، واجبات الأفراد والجماعات (في العمل وضرورات "التأقلم والانضباط" وغيرها)، بقدر ما تتقلص حقوقهم وتضيق، سواء تعلق الأمر بالحصول على عمل أم بضمان استمراره واستمرار الضمانات المترتبة عليه.
  
بمعنى أنه ما دامت الدولة/ الأمة، بكل دول العالم، هي راعي المواطنة وضامنها، فإن تراجعها (بجهة تحجيمها إلى وظائف شكلية) هو حتما من تراجع ذات المواطنة ومن تحجيم منظومتها.
 
- المعطى الثاني، ويكمن في الاتجاه المتسارع والحثيث لظاهرة العولمة باتجاه تقويض المرافق الكبرى، التي يعتبر وجودها واستمرارها من وجود واستمرار مبادئ المواطنة نفسها.
 
قد لا يكون الأمر هنا مثال إشكال كبير لو كان مقتصرا على جوانب من الخصخصة تطال بعضا من "قطاعات المواطنة" (كالتعليم والتربية والصحة وغيرها)، وقد لا يكون مكمن تخوف كبير إذا كان بهدف تحسين أداء القطاعات إياها (وتحسين دور الدولة من خلالها)، لكنه يتعدى كل هذا وذاك حينما يطال المرفق العام كفلسفة لمساواة الأفراد والجماعات لا قائمة تذكر للمواطنة في الارتداد عنها.
 
إن الحاصل هنا أن استهداف العولمة، في هذا الاتجاه، لم يقتصر على المجال الاقتصادي والمالي والاجتماعي الضيق الذي يعتبر "دخيلا" على المواطنة، بل تعدى ذلك إلى الجانب السياسي والمدني الذي لطالما أسس لجوهر المواطنة وكرس لمختلف أبعادها.
  
- المعطى الثالث ويتعلق أساسا بـ"القيم الديمقراطية" التي لم تفتأ العولمة تقدمها لبناء المواطنة "العالمية"، والتي لا تتراءى لها من مواطنة سواها.
 
لا ينحصر الأمر هنا في ترويج العولمة لمبادئ وقيم النظم الليبرالية، وصهر ما سواها من الأنظمة في صلبها، بل يتعدى ذلك إلى فرضها قسرا لمنظومة "ديمقراطية السوق" التي لا تختلف في شكلها كما في المضمون، عن فضاء المتاجرة التي يعتمده اقتصاد السوق ويبني عليه فلسفته وأسسه وامتداداته.  
 
بالتالي، فبقدر استهجان العولمة لإمكانيات استنبات قيم محلية مختلفة، بقدر استهجانها لسيادة قيم تعارض توجهاتها أو تسير بغير وتيرتها.
 
- المعطى الرابع ويرتبط بخاصية الاختلاف، في المرجعية كما في الممارسة، التي تدفع بها المواطنة، ولا ترى فيها ظاهرة العولمة إلا ضربا من ضروب "عدم مجاراة العصر".

فالعولمة توحد في النظرة ووحدة في التمثل (للاقتصاد كما للمجتمع كما للثقافة)، في حين أن المواطنة هي تعدد واختلاف في النظرة كما في التمثل.
 
وعلى هذا الأساس، فعولمة المواطنة هي عولمة لذات النظرة وعولمة لذات التمثل، في حين أن مواطنة العولمة (بمعنى تلقيحها بقيم المواطنة) هي تعدد لها وتعدد لأبعادها.
 
من هنا فبقدر اجتهاد المواطنة على تخليق العولمة، بقدر إمعان العولمة في صهر اختلافات المواطنة في صلب منظومتها، وتحويلها إلى جزء منها لا قائمة لها بدونها.
 
وعلى أساس هذه الخلفية، فلا مواطنة "عالمية" تذكر إذا اعتملت بداخل العولمة تصورات وتمثلات هي إلى إفراغ المواطنة من محتوياتها؛ أقرب منها إلى تلقيحها بقيم وتصورات جديدة.
التعليقات (0)