قضايا وآراء

الهروب من العار

عمرو عادل
1300x600
1300x600
من الصعب الإمساك بتفسير واضح وقاطع لمفهوم العار، إلا أنه (إذا حاولنا ذلك) إحساس ذاتي لا يجبرك عليه أحد سوى نفسك، وهو في الغالب ليس له علاقة بالقانون ولا النصوص، ولكن له علاقة بالنظام الاجتماعي وقواعد الأخلاقية، ويمثل الإحساس بالعار دليلا داخليا مؤلما عند الفرد لحماية المجتمع مما قد يفعله. ويختلف مفهوم العار من مجتمع لآخر، طبقا لعاداته وتقاليده وتركيبته الطبقية والاجتماعية وربما الثقافية.

ويتطور في المجتمع الواحد عبر الزمن، فما كان عارا منذ سنين ربما لم يعد كذلك الآن، وتجانس المجتمعات يعتمد بدرجة ما على عدم وجود تفاوت كبير بين طبقاته وقطاعاته في المفاهيم، ومنها مفهوم العار، وهذه لها الكثير من الأمثلة ليس مجالها الآن.

والجميع بالتأكيد يحاول الهروب من إحساسه بالعار، إما بالالتزام بالقواعد والمعايير التي يمليها على نفسه؛ لأنه كما ذكرنا إحساس ذاتي لا يجبرنا عليه أحد. وهذا بالتأكيد دليل قوة الشخص واحترامه لنفسه، ويمكن تسميته بالهروب الإيجابي من العار. أما إذا كان لا يمتلك القوة النفسية والمادية الكافية للهروب الإيجابي، فإنه يلجأ لحيل نفسية للهروب من الإحساس بهذا العار. أذكر مشهدا سينمائيا لرجل فقير تأتي ابنته بالكثير من الأموال من عملها، وعندما كان يسألها عن مصدر الأموال كانت تقول له إنها تعمل في السياحة، وكان يحاول التصديق وأنهى التردد بمقولته: نعم "السياحة بتكسب كثير". فقد أنهى كل شيء بجملة حاسمة سحرية أبعدته عن أي احتمال للإحساس بالعار، ويمكن أن نطلق على ذلك الفعل الهروب السلبي.

في الحرب العالمية الأولى كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني، وكان عدد سكانها حوالي 13 مليون نسمة، كما كانت الهند أحد أهم المستعمرات البريطانية، وبالتأكيد عدد سكانها لا يقارن بعدد سكان مصر المحدود، إلا أن الغريب أن يكون الشعب المصري صاحب خامس أكبر عدد من القتلى في هذه الحرب بحوالي نصف مليون قتيل، وهذا في حربه مع دول الحلفاء ضد الألمان والعثمانيين. هذا الرقم هائل مقارنة بعدد السكان، وقياسا أننا دولة تحت الاحتلال ولسنا من القوى العظمى المتحاربة له عدة دلالات مؤلمة.

1- يمثل الشباب المصري لدى حكوماته المتتابعة مادة خام للقوى العظمى يمكن التبرع بحياتها بلا ثمن، وقد قام سعيد باشا بمجاملة نابليون الثالث بقوات مصرية لتحارب معه في المكسيك – نعم المكسيك – في حرب ليس لنا فيها ناقة ولا جمل، ولكنها مجاملات الملوك.

2- القوى الإمبريالية لا ترى في الشعب المصري إلا خزانا بشريا يجب أن يبقي تحت السيطرة العسكرية من وكلائه لاستخدامه عند الحاجة.

3- الشعب المصري بمجمله يعاني من غياب وعي عميق بطبيعة تلك المؤسسة التي تسيطر على مصر.

ربما يقول قائل إن هذا كلام قديم وأحداث منذ مئة سنة، إلا أن الحقيقة أن هذا الأمر ليس له علاقة ببعد الفترة الزمنية؛ بقدر علاقته ببنية الجيش المصري والهدف من وجوده. وما حدث في 2013 وما تلاها من سحق للشعب المصري للقضاء على أي إرادة للتحرر؛ مؤشر على هذا الخلل البنيوي في تلك المؤسسة.

وبالنظر إلى الوضع الحالي، حيث تزيد مؤشرات خروج ما يسمى بالجيش المصري للخارج في حروب بالوكالة، يجب التنبيه على حجم الكارثة التي تنتظر شباب مصر، فقد أصبحت هذه المؤسسة مثل الفيروس القاتل في قارورة مغلقة ينتظر الجميع إلى أي مكان سترمى لتحدث الكارثة.

فالشباب المصري من المتوقع أن يكون وقودا لتلك المعارك التي تدعم الاستبداد والاحتلال، ولن يكون له ثمن كما حدث سابقا غير ما يقرب من مئة مقبرة منتشرة في أوروبا تشهد على مدى الجريمة التي ننتهكها في حق شباب مصر. لقد قام الشباب المصري منذ أسابيع قليلة بالهروب الإيجابي من العار عندما رفض أن يلوث يديه بحبر أشبه بالدماء في ما تسمى انتخابات الرئاسة، والشباب هم المصدر الرئيسي لجريمة التجنيد الإجباري في مصر (وهذا له محل آخر للحديث)؛ وبالتالي هم مصدر القوة الأكبر لما تسمى مؤسسة الجيش، وفي غيابهم أو تمردهم تصبح المؤسسة قطعا من الحديد الصدئ.

من الصعب الآن الحديث عن تمرد واسع أو الامتناع عن التجنيد فهذا يحتاج إلى عمل طويل وممنهج، ونشر هذه الفكرة أولا، إلا أنه من الممكن الحديث عن رفض الموت بلا ثمن لصالح مجموعات من الخونة في معارك بالوكالة لصالح الاحتلال. ولكل جندي من شباب مصر الحق في الاختيار بين رفض العار الإيجابي بإلقاء سلاحه أرضا قبل أن يطلق رصاصة واحدة في معارك الوكالة ضد شعب مصر وربما غيره من الشعوب قريبا؛ وبين رفض العار السلبي بإطلاق الرصاص وحجز شاهد قبر في بلاد بعيدة كأجداده الذين قاتلوا في أوروبا منذ مئة عام.

وهذا الأمر لن يساعدك أحد فيه إلا نفسك، فهو قرار ذاتي وإحساس شخصي. فلك الحق أن تقول لن أحمل عارا كأجدادي وتلقي سلاحك أرضا، أو أن تقول: "السياحة بتكسب كثير" أو بمعنى آخر "نحارب من أجل جيشنا الوطني" وتقتل من تشاء، ولكن لا تنس أن تأخذ صورة "سيلفي" كل خمس دقائق، فربما يعرف أهلك من الصورة الأخيرة لك في أي مكان قد يجدوا شاهد قبرك.
التعليقات (0)