كتاب عربي 21

التفاهة صارت آيديولوجيا

جعفر عباس
1300x600
1300x600

"هذا اليوم الموبوء هو الثامن من أيام الأسبوع الخامس في الشهر الثالث عشر / الإنسان، الإنسان عبر/ من أعوام/ ومضى لم يعرفه بشر/ حفر الحصباء، ونام/ وتغطى بالآلام".


لم أجد استهلالا لمقالي هذا أفضل من هذا المقطع السيريالي من قصيدة للشاعر المصري الراحل صلاح عبد الصبور.


ألن دونو فيلسوف من إقليم كيبيك الكندي، يبلغ من العمر 47 سنة، وصار منذ أن بلغ الثلاثين ملء السمع والبصر في مختلف أنحاء العالم، بسبب اهتمامه بقضايا حيوية، وعلى رأسها نهب الشركات متعددة الجنسيات لثروات البلدان النامية، وعندما أصدر في عام 2008 كتابه "كندا السوداء- النهب والإفساد والإجرام في أفريقيا"، جرجرته شركات التعدين الكندية في المحاكم مع ناشر الكتاب، فحفز ذلك أنصار حرية الراي في كندا، على السعي لاستصدار قانون يمنع الشركات الكبرى من ترويع منتقديها بالملاحقات القضائية، فكان لهم ما أرادوا.

 

ولأن مؤلفات دونو بالفرنسية، فإنها لم تجد الذيوع في المشرق العربي، ولكن كتابه "نظام  التفاهة" وجد الاهتمام من قبل بعض الأكاديميين والسياسيين العرب، ولعل أول من لفت الانتباه إليه هو الأستاذ جان عزيز، ولكن لفت انتباهي بشكل خاص، عرضان منهجيان للكتاب، للدكتور صبري محمد خليل، أستاذ فلسفه القِيَم الإسلامية في جامعه الخرطوم، والكاتب والناقد المغربي الدكتور الكبير الداديسي.


يقول دونو إن التافهين قد حسموا المعركة، وسيطروا على عالمنا، وباتوا يحكمون عالمنا، والدليل على ذلك حلول القابلية لـ"التعليب" محل التفكير العميق: ويرى من ثم (ساخرا) أنه لا لزوم لاطلاع على الكتب المعقدة.

 

ويسدي لك النصح: لا تكن معتدّاً بنفسك، ولا روحانياً. فهذا يظهرك متكبراً. ولا تقدم أي فكرة جيدة.

 

فستكون عرضة للنقد. ولا تحمل نظرة ثاقبة، ووسع مقلتيك، وارخ شفتيك، وكن ذا مرونة وقابلية للتشكل- و"التعليب" لأن التافهين أمسكوا بالسلطة.

 

ويعزو دونو سيطرة التافهين على مجريات الأمور في العالم – من أوله إلى أسفل سافله-إلى تغير مفهوم العمل، بحيث صارت "المهنة"، "وظيفة". وصار شاغلها يتعامل معها كوسيلة للبقاء لا غير.

صار السياسي تلك الصورة السخيفة لمجرد الناشط في لوبي لمصلحة زمرته، وفي عالم صار التافهون سادته كما يرى دونو (ونرى أنا وأنت من واشنطن إلى بيونغ يانغ)، فإن تحقيق النجاح يتطلب أن "تلعب اللعبة"، فبتنميط العمل وتسليعه و"تشييئه"، وتفريغ السياسة والشأن العام من المضامين التي ظلت قائمة عليها لقرون.

"ويمكن أن تعمل عشر ساعات يوميا على وضع قطعة في سيارة، وأنت لا تجيد إصلاح عطل بسيط في سيارتك. ويمكن أن تنتج غذاء لا تقدر على شرائه. أو تبيع كتباً ومجلات وأنت لا تقرأ منها سطراً. ولهذا انحدر مفهوم العمل إلى مستوى "المتوسط". وصار شاغلوه "متوسطين"، بمعنى "دون المستوى".


وعزز سطوة التافهين حكم التكنوقراط، واستبدال الإرادة الشعبية ب"المقبولية" الاجتماعية، ويرى دونو أن نبتة حكم التفاهة غُرِست في عندما صارت مارغريت تاتشر رئيسة للحكومة البريطانية، ف"يومها جاء التكنوقراط إلى الحكم.

 

استبدلوا السياسة بمفهوم الحوكمة، واستبدلوا الإرادة الشعبية بمفهوم المقبولية المجتمعية، والمواطن ب"الشريك".

 

وفي النهاية صار الشأن العام تقنية "إدارة"، لا مكان فيها لقِيم ومثل ومبادئ ومفاهيم عليا. وصارت الدولة مجرد شركة خاصة. وصارت المصلحة العامة مفهوماً مغلوطاً لمجموع المصالح الخاصة للأفراد.

 

وصار السياسي تلك الصورة السخيفة لمجرد الناشط في لوبي لمصلحة زمرته، وفي عالم صار التافهون سادته كما يرى دونو (ونرى أنا وأنت من واشنطن الى بيونغ يانغ)، فإن تحقيق النجاح يتطلب أن "تلعب اللعبة"، فبتنميط العمل وتسليعه و"تشييئه"، وتفريغ السياسة والشأن العام من المضامين التي ظلت قائمة عليها لقرون.

 

صارت التفاهة نظاماً يستوجب أن "تلعب اللعبة"، ولم يعد لاعتبارات الإنسانية شأن، فكل ما هو مطلوب من الفرد هو الانتماء الأعمى إلى جسم ما، يقوم على شكليات السهرات وحفلات الطعام والدسائس، وبعدها يصير الجسم فاسداً بشكل بنيوي قاطع. حتى أنه ينسى علة وجوده ومبادئ تأسيسه ولماذا كان أصلاً ولأية هدف.


يقول دونو إن الخبير هو أفضل تجسيد لنظام التفاهة ، فهو ممثل "السلطة"، المستعد لبيع عقله لها.

 

في مقابل "المثقف"، الذي يحمل الالتزام تجاه منظومة قِيم ومُثُل. وجامعات اليوم، التي تموّلها الشركات، صارت مصانعاً للخبراء، لا للمثقفين! فلا مكان فيها للعقل أو الحس النقدي 
و لأنه نظام يقدس النقد (الكاش)، فهو نظام فاشل بيئيا وظالم اجتماعيا، فهو يضع ثمانين في المائة من أنظمة الأرض البيئية عرضة لأخطار نظام استهلاكهم.

 

ويسمح لخمسين في المائة من خيرات كوكبنا، بأن تكون حكراً على واحد في المائة من أثريائه. ويستشهد الدكتور الداديسي في هذا الصدد بمقولة الشاعر الراحل محمود درويش بأن المال صار "العبد والمعبود والمعبد"


أي أن المال صار "الإله" الذي تتوحد حوله كل الديانات، والمعبود الأوحد الذي لا خلاف حول طريقة عبادته، وهذا الإله الجديد – والكلام ما زال للداديسي- قتل القيم، ووقف شامخا على قبرها وجعل كل شيء في خدمته. فماتت المهنة وحلت محلها الوظيفة والتوظيف.


والموظف مجرد أداة ، والوظيفة مجرد وسيلة متاحة لمن  يسعى للفوز بها، ولم يعد مطلوبا من المدرس أن يكون كفئا، ومن إمام المسجد أن يكون حاملا فاهما لكتاب الله، ومن ثم "فقد تجد إنسانا حاصلا على الدكتوراه في الكهرباء ويستقدم تقنيا بسيطا لإصلاح عطل بسيط في بيته، وأُميّا لم يلتحق بمدرسة، يدير يبيع الكتب، ويوجه النشء لشراء كتب لا يعرف محتواها.

 

وهكذا ستجد في كل مكان من يؤدي وظيفة المعلم ، والأستاذ الجامعي، والطبيب والمهندس والنجار والصباغ والسباك، ولكن قلما تجد المهني الذي يتقن عمله، لأن الوظيفة لم تعد تتطلب الإتقان.

 

هل بدأ زمن التفاهة قبل قرون مما حدا بالإمام الشافعي رضي الله عنه أن يقول:
لا تأسفن على غدر الزمان لطالما / رقصت على جثث الأسود كلاب؟
وهل نعمل بنصيحته:
ما في المقام لذي عـقـل وذي أدب / من راحة فدع الأوطان واغتـرب
نغترب نروح إلى أين يا شيخنا؟ كله صار محصل بعضه

0
التعليقات (0)

خبر عاجل