كتاب عربي 21

يا ريت شارون محاكم عن بكرة أبيكم!

طارق أوشن
1300x600
1300x600

هكذا صرخ طوني حنا، المنتمي للقوات اللبنانية، في وجه ياسر سلامة، المهندس الفلسطيني اللاجئ بلبنان.

 

جملة أتبعها سلامة باعتداء على طوني حول قضيتها إلى المحاكم اللبنانية ومن بعدها إلى الشارع الملتهب قضية رأي عام.


كلام طوني لا يختلف في شيء عما صرنا نسمعه من ساسة وكتاب وصحفيين وأناس عاديين ليس أقلها التصريحات المسربة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان أن على الفلسطينيين أن يقبلوا بما يعرض عليهم أو يسكتوا. لقد تأكد بالملموس أن القضية الفلسطينية صارت عبئا كبيرا على الأنظمة العربية "الجديدة" يتأففون منه في العلن، عبر أبواقهم الإعلامية، بعد أن كان الموضوع يتم سرا.


فلاش باك..
طوني حنا وياسر سلامة شخصيتان متخيلتان في فيلم (قضية رقم 23 - 2018) للمخرج زياد الدويري وإن وجدنا لهما في الواقع نماذج وأمثلة لا تحصى. تقع مشاداة بين الاثنين ظاهرها خلاف في موقع أشغال تابع للبلدية وأصلها تراكمات تاريخية للوجود الفلسطيني على أرض لبنان.

 

أصر طوني على الاعتذار بديلا عن رفع القضية للقضاء، فكان اللقاء الثلاثي بين الغريمين والوسيط بينها طلال، مدير شركة الإنشاءات بورشة طوني للميكانيكا حيث لا تتوقف أشرطة مسجلة لخطابات أمين الجميل على مدار اليوم. 


بشير الجميل: لقد أصبح الفلسطينيون بسبب انحرافات قيادتهم مرفوضين في كل لبنان فليبحثوا عن إطار جغرافي آخر يسكنون فيه غير لبنان، ينشئون دولة خاصة، يقبلون بالحكم الذاتي، يتوزعون على الدول العربية، يتحدون مع الأردن، يذهبون إلى إيران.. المهم ألا يبقوا هنا.


يردد طوني حنا العبارة الأخيرة بموازاة نطقها من زعيمه الخالد.


يواصل بشير الجميل: باسمكم، باسم أهالي ترشيش وعينطورة.. باسم أهالي الدامور.. باسم أهالي عكار.. مشانكم، مشان أطفالكم.. مشان تعيشوا مثل ما اللاجئ الفلسطيني عايش.. داير على بلاد العالم عم بيخرب في بلاد العالم.. عم بيشرب من بير بلاد العالم وعم بيرجمها بحجر.


طلال: (موجها كلامه لياسر) السيد طوني حابب يقلب الصفحة وبده يسمع منك.


يتردد سلامة في تقديم الاعتذار المطلوب منه..


طوني: تعرف شو.. انتم أصلا شعب بلا أصل.. لو بتحترموا حالكم كنت اعتذرت من زمان.. مش غريب أنه صيتكم وسخ.. على قولة اليهود: الفلسطيني ما يضيع فرصة حتى يضيع فرصة.


ينسحب ياسر مبتعدا فيلحقه طلال..


طلال: لحظة شوية ياسر.. شو بيك؟ اشحطك من الشغل يعني؟ والله بعملها.. ما تجربني ياسر!
طوني: (صارخا) يا ريت شارون محاكم عن بكرة أبيكم.


يوجه سلامة ضربة قوية لطوني ويرديه أرضا.


أصبحت جملة (يا ريت شارون محاكم عن بكرة أبيكم) أساس خطتي الدفاع والادعاء أمام محاكمة لم تلبت أن تحولت لقضية سياسية تداخل فيها التاريخ بالجغرافيا والماضي بالحاضر. وبين الواقع والخيال نقاط مشتركة لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها.


منذ أيام "احتفل" الفلسطينيون بذكرى النكبة وسالت دماء "فريق" منهم على حدود غزة بينما كان الاحتفال على الجانب الآخر نقلا للسفارة الأمريكية إلى القدس في خطوة ما كان أحد يتوقعها قبل سنة من اليوم.

 

كان الأمل معقودا على أن "الشعب" العربي ومسلمي العالم لن يقبلوا بتغيير الأمر الواقع بالمدينة المقدسة لما تمثله من رمزية دينية تقيها شر المؤامرات.

 

أعلن ترامب عن نقل السفارة منذ أسابيع وفعّل قراره ضدا على كل التحذيرات... واستمرت حياة "الأمة" في الذل والهوان مع فواصل بيانات شجب واستنكار ورفض للقرار مع تزكيته تحت الطاولة ومعه كل ما سيليه من قرارات وفق "صفقة القرن" المنتظرة شيكا على بياض موقع من حالمين بالسلطة أو راغبين في الخلود في "نعيمها".


في فيلم (قضية رقم 23)، يزور مالك شركة إبراهيم نصار للمقاولات موقع العمل، وهو النائب البرلماني في نفس الآن. هناك يتعرف على المهندس الفلسطيني ياسر سلامة.


ينادي صاحب الشركة مديرها طلال ويدخلان إلى السيارة.
إبراهيم نصار: هذا الزلمة منو؟
طلال: المسؤول عن الشغيلة.
إبراهيم نصار: فلسطيني؟
طلال: بعرف أنه ممنوع يشتغل.
إبراهيم نصار: طلال! انت تعرف موقفي. أنا بالقضية معاهم.. براعي ظروفهم.
طلال: بعرف ها الشي.


إبراهيم نصار: بس مش على حساب الشركة.


نفس النائب خرج متزعما مظاهرات داعمة للفلسطينيين بعد أن صارت قضية طوني/ياسر قضية رأي عام واصطفاف سياسي للاستغلال.


تخاذل النظام الرسمي العربي أمر معهود ومنتظر. لكن المفاجأة أتت من شعوب لم تتوقف يوما عن تصدير حناجرها بشعارات الاستعداد للجهاد ونصرة الأقصى. ثبت أن لكل جمهور قضاياه المحلية تغنيه عن التفكير في مآل فلسطين ونكبتها.

 

بعضها حروب وقلاقل أنهكت الحرث والنسل والآخر خنوع بالطبيعة لرأي حكام مستجدين غيروا من العقائد والثوابت ما شاؤوا دون رقيب أو حسيب.

 

في الماضي كان الشجب في الشوارع والشاشات ديدن الغاضبين لكنهم اليوم أوهن من رفع الصوت لاستنكار ظلم وجور استفحل وطغى.

 

لقد صارت المزايدة بالألم الفلسطيني خارج الاهتمامات بعد أن أصبحت الطريق سالكة في اتجاه التطبيع المباشر مع عدو تحول إلى حليف في مواجهة العدو الجديد: إيران. ولم يعد حتى عدد الضحايا أو هول الكوارث مبررا للتنديد أو الخجل في مواجهة النفس قبل الآخرين.


رد الفعل الشعبي الباهت أمام الإجراءات المتسارعة من حكامهم وحكام أعدائهم في اتجاه إقبار القضية الفلسطينية وتصفيتها على مذبح المشاريع الاقتصادية الكبرى أو ترتيبات إعادة توزيع الأدوار وبناء التحالفات في الشرق الأوسط الجديد، يؤكد بالملموس كيف أصبحت القضية الفلسطينية على هامش الأحداث والأولويات.

 

وليس الفلسطيني منزها عن المساهمة في مآل الأوضاع بعد أن تحولت القضية من مجابهة الاحتلال والدفاع عن المقدسات إلى مجرد "غنيمة" سياسية يتصارع عليها فريقان منقسمان، وهو ما أدى في النهاية إلى تهشيم الصورة المثالية لشعب متماسك وقضية سامية في مرحلة ضبابية تشوشت فيها الرؤية وانعدمت المرجعية واختلطت الحقائق بالأكاذيب والترهات.


داخل قاعة المحكمة، يرافع مجدي وهبي نيابة عن موكله طوني حنا في مواجهة ابنته نادين وهبي المدافعة عن ياسر سلامة.


وجدي وهبي: حضرة الرئيسة.. نحن في الشرق الأوسط. هنا تم ابتكار كلمة عدائية. مش شغلته السيد طوني ياخد بعين الاعتبار حساسية كل ها العالم.. هايدي مشكلتهم هنّا مش مشكلته هو.
نادين وهبي: تسمح لي المحكمة أذكر الكلمات ايلي دفعت ياسر سلامة يضرب طوني حنا.. الكلمات هي: يا ريت شارون محاكم عن بكرة أبيكم.


جزء من الحضور: آآه.. يا ريت.. يا ريت.


نادين وهبي: سيد طوني هل كنت تعرف أن هذه الكلمات تشكل أذى للسيد سلامة ولهويته وبالتالي فهي بالقانون توصف بجريمة كراهية؟


وجدي وهبي: جريمة كراهية بسبب إهانة؟ عن أي إهانة بنحكي؟ إهانة 48 أو 56؟ حرب الست أيام؟ حرب أكتوبر؟ حرب 82؟ هايدي كلها إهانات ما فينا نحمل موكلي مسؤولية هذه الأحداث.


نادين وهبي: النكبة الفلسطينية مانّا مجرد حادثة حضرة المحامي.
وجدي وهبي: مانّا حادثة.. كانت مصيبة علينا.


كان تبرير المحامي لعبارته (كانت مصيبة علينا) أنه انفعل قليلا. كلماته ليست في الواقع كذبا بل هي حق أريد به باطل.

 

فالنكبة لم تكن نكبة فلسطينية خالصة بل هي نكبة منطقة كاملة زُرع فيها عضو نشاز لم ترتح معه يوما، بل استنزفت تاريخها المعاصر حروبا واقتتالا وهزائم توالت حتى صارت قاعدة لا قبل للمكابرة في مواجهتها.

 

رمي القضية الفلسطينية ونتائجها على المنطقة باتهام تعطيل التنمية والتقدم بالبلدان المجاورة أمر يفنده ما شهدته الدولة المغتصِبة للأرض العربية من نمو صار اليوم ذريعة المطبعين لتبرير السعي للارتماء في أحضان سلامها الدافئ ولو استدعى الأمر التبرير لجرائمها، كما فعل وزير خارجية البحرين قبل أيام.

 

يعتقد الوزير أن إسرائيل بحاجة لدعم دولة بحجم دولته "للدفاع عن نفسها" في مواجهة "همجية" الأطفال والنساء والمدنيين.


في جلسة أخرى يواصل المحامي وجدي وهبي المرافعة.


وجدي وهبي: هذا الرجّال خطر وإذا كنا هلا عن نشوفه حر فلأنه التاريخ كان معه..  إن السياق السياسي هو الذي حال دون امتثاله للعدالة واليوم مطلوب منا نعفي عنه للمرة الثانية بسبب نفس السياق السياسي.. القضية الفلسطينية المقدسة.


الدفاع يتكلم عن يأس الفلسطينيين كأنهم هم المشردين الوحيدين في العالم.. طيب والأرمن والأكراد والغجر والمثليين والفنانين وبياعين الخضرة.. في حدا بعد ما انحرم من حقوقه الأساسية بس ما بتشوفهم عم بيخبطوا بعضهم. سيد ياسر، حتى لو كنت انت لاجئ، ضحية وهربان من بلدك هذا ما بيعطيك العذر أنك تتصرف بشكل عنيف.

 

حتى لو كنت من أكثر الناس المظلومين بالعالم هايدا ما بيعني أن حضرتك صرت تمثل العدالة والضمير المطلق.. بعدين ليش عاملين كل هذه الضجة؟ لأن الفلسطيني انمحى عن بكرة أبيه أو أنه طوني قال هذه الكلمات؟ لأ. السبب هو شارون. لو طوني حنا قال يا ريت الأسكيمو أو السنافر محيوكم عن بكرة أبيكم ما كنا قاعدين هون عم نتجادل.


نادين وهبي: الأسكيمو والسنافر ما لهم علاقة بالقضية.. حضرة المحامي عم يبعدنا عن القضية.
مجدي وهبي: لما اليهودي بيعملها تبقى جريمة بس لما عربي يقتل عربي.. معلش، بسيطة، تمرق طالما أمورنا الوسخة بتظل بيناتنا ماشي الحال.. صح؟ ... الفلسطينيين سلطوا الأضواء كثير على قضيتهم لدرجة ما عاد فيه مطرح لحدا تاني.. فيه شيء لازم ينقال.. شيء حقيقي وأساسي.. ما حدا بيحق ايلو يحتكر المعاناة حضرة القاضي.. ما حدا.


صدى كلمات المحامي وجدي وهبي صارت تتردد كثيرا في المنتديات واللقاءات ونشرات الأخبار. لقد صار يتشكل في المنطقة خطاب جديد ينتقي كلماته وتعريفاته من نفس المحبرة التي كتبت بها المرافعة أعلاه. باعتماد التاريخ والجغرافيا، وباستحضار الماضي واستشراف المستقبل، وتطويع الآيات والأحاديث و"تنقيتها" من شوائب التفسيرات المتطرفة خدمة لرأي الحكام الجدد، ينتشر الخطاب الجديد الداعي ل"سلام" كان ياسر عرفات يسميه "سلام الشجعان" قبل أن ينتهي سلاما لكل الخونة الخانعين. 


عندما رفض قاضي الدرجة الأولى الدعوى المقدمة من طرف طوني حنا ضد ياسر سلامة، لم يستسغ المدعي الأمر فأمر القاضي بإخراجه من قاعة المحكمة. وبينما هم رجال الأمن بتنفيذ الأمر صرخ طوني عاليا:


يا ريتني فلسطيني.. يا ريتني فلسطيني..

0
التعليقات (0)

خبر عاجل