مقالات مختارة

القاهرة بين مشهدين: اقتحام السفارة 2011 واحتفال السفارة 2018

عبد الحميد صيام
1300x600
1300x600

تريدون أن تعرفوا لماذا تجرأت الولايات المتحدة بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقلت سفارتها إلى القدس في ذكرى نكبة الفلسطينيين؟ وتريدون أن تعرفوا لماذا تتعامل إسرائيل مع المتظاهرين السلميين بالقتل، فتردي في يوم واحد 61 شهيدا وتجرح الآلاف؟ أتعرفون لماذا تجرأت البحرين والإمارات بإرسال وفود رياضية إلى إسرائيل للمشاركة في مباريات «طواف إيطاليا» التي تشمل القدس؟ ولماذا تقوم الإمارات يوم المذبحة وافتتاح السفارة بدعوة وزير الاتصالات بحكومة الكيان الإسرائيلي أيوب قرّا، لزيارة رسمية؟ 

كل الأجوبة تشير إلى القاهرة ودورها الجديد والمتجدد ـ القاهرة التي كانت تقهر أعداءها، أصبحت تقهر عشاقها. القاهرة التي ساهمت في تشكيل وعينا وصقل ذوقنا وتحريضنا على مقارعة الثالوث المتحالف أبدا الصهيونية والإمبريالية والرجعية العربية، تحولت لتصبح خطا أماميا لذلك الثالوث. القاهرة التي كانت شوكة في عيون المعادين للعروبة والتحرر والخونة والجواسيس والمتآمرين، أصبحت تثير الأسى والحزن، لأنها أدارت ظهرها لكل ما هو جميل في هذه الأمة من تقارب وتضامن وطموح. 
وتعالوا معي لنجلس في مسرح العبث القاهري لنشاهد معا مسرحية من مشهدين: واحد أعاد لنا الأمل بعودة القاهرة إلى قيادة الأمة بعيد ثورة 25 يناير العظيمة، والآخر ذكرنا بالدور الجديد والمتجدد للقاهرة في تطويع الأمة لصالح الكيان الصهيوني بعد يوليو 2013. 

مشهد 1- اقتحام السفارة الإسرائيلية في القاهرة

التاريخ: 9 /10 سبتمبر 2011 

قائد البلاد – المشير محمد حسين الطنطاوي

قامت القوات الإسرائيلية يوم 18 أغسطس 2011 بقتل خمسة جنود مصريين على الحدود المصرية الإسرائيلية، بحجة مطاردة مجموعة إرهابية قتلت ثمانية جنود إسرائيليين قرب إيلات. كانت العملية الاستفزازية أقرب إلى اختبار إسرائيلي لمصر ما بعد سقوط «كنزها الاستراتيجي». وقد ذكر تقرير لقوات المراقبة الدولية في سيناء أن إسرائيل انتهكت اتفاقية السلام مع مصر مرتين، فهي اجتازت الحدود المصرية ثم أطلقت النار من الجانب المصري. وكان الضحايا من الغلابة المجندين في أعمار الزهور وهم: أحمد جلال وأسامة جلال وطه محمد إبراهيم وأحمد محمد أبو عيسى وعماد عبد الملاك. عقدت المجموعة الوزارية الخاصة بإدارة الأزمات اجتماعا طارئا يوم السبت 20 أغسطس، وأصدرت بيانا شديد اللهجة تطالب فيه إسرائيل بالاعتذار الرسمي «وتؤكد مصر أنها لن تتهاون في حقوق أبنائها وحماية أرواحهم»، كما جاء في نص البيان. لكن إسرائيل رفضت تقديم الاعتذار، وأكثر ما صدر عن أفيغدور ليبرمان، وزير الخارجية آنذاك، تصريح عليائي يعبر بطريقة مواربة عن نوع من الأسف لا الاعتذار. استدعت مصر سفيرها في تل أبيب للتشاور، وطالبت بإجراء تحقيق مشترك لكشف ملابسات الحادث، إلا أن ذلك كان قرع طبل عند أطرش. 

بدأت الأمور تغلي في الشارع المصري، الذي لم يقتنع برد الحكومة البارد، ولا برد إسرائيل الوقح. وانتظروا أياما وأسابيع بدون تحرك. وكان يوم الجمعة 9 سبتمبر- حيث اعتصم آلاف المتظاهرين أمام السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وطالبوا بطرد السفير الإسرائيلي. وقام أحمد الشحات، الذي لُقب برجل العـَلـَم، بتسلق المبنى الذي توجد فيه السفارة حتى وصل الدور الخامس والعشرين فأنزل العلم الإسرائيلي وأحرقه ثم رفع مكانه العلم المصري. 

تدفقت الجماهير الغاضبة في ذلك اليوم الذي أطلق عليه الناشطون «جمعة الشواكيش»، وقاموا بتحطيم أجزاء من الجدار الذي أقيم عقب مقتل الجنود الخمسة، واقتحم بعضهم غرفا تابعة للسفارة واستولوا على وثائق كثيرة ثم ألقوا بها من النوافذ إلى المتظاهرين في الأسفل. وكانت العمارة التي فيها السفارة محاصرة من كل الأركان، وأصبح موظفو السفارة بحكم المحاصرين. ولم تعرف كيف تتصرف إسرائيل. اتصل إسحق ليفانون، سفير إسرائيل السابق ببعض موظفي الخارجية المصرية، ونبههم إلى أن الجماهير اقتحمت الجدار الخارجي الأول للسفارة. فكان الرد باردا «لا تقلق هذا الجدار لنا وسنقوم ببنائه مرة أخرى».

تم إجلاء المندوبين وعائلاتهم عن طريق القبو تحت العمارة وعددهم 85 وكانوا يلبسون الزي العربي وبعضهم يعتمر الكوفية للتمويه، لكن ستة دبلوماسيين بقوا في السفارة. المتظاهرون يقتربون من الجدار الثاني يحطمونه مع الساعة التاسعة مساء. السفير ليفانون تلقى مكالمة من داخل السفارة يصرخ فيها أحد المحاصرين قائلا : «لقد اقتحموا السفارة… افعلوا شيئا أي شيء». الطنطاوي نفسه رفض الرد على مكالمة نتنياهو. لم يبق أمام الإسرائيليين إلا الرئيس الأمريكي أوباما. اتصل وزير الدفاع إيهود باراك بالرئيس الأمريكي وقال له «هناك ستة دبلوماسيين محاصرون داخل السفارة. إسرائيل بحاجة إلى مساعدتكم. اتصلوا بالطنطاوي مباشرة». 

أوباما من جهته حذّر من أي مغامرة عسكرية غبية قد تقوم بها إسرائيل. وبالفعل اتصل أوباما بالمشير الطنطاوي الذي لم يستطع تجاهل مكالمة الرئيس الأمريكي، فأرسل وحدة صغيرة من القوات الخاصة وبلباس مدني واتفقوا مع إسرائيل على طرقة معينة للباب لكي يعرفوا أنهم قوات الأمن وليس المتظاهرين، وفعلا دخلوا السفارة وأعطوا المحاصرين أزياء مصرية ليبدو أنهم مصريون ونزلوا إلى أسفل المبنى وبمرافقة قوات الأمن وتم توزيعهم على مجموعتين كل ثلاثة في سيارة أمن مع مرافقيهم المصريين ونقلوا فورا إلى مطار القاهرة، ثم إلى تل أبيب. وانتهى المشهد بعد سقوط ثلاثة شهداء مصريين وجرح المئات.

مشهد 2- احتفال السفارة الإسرائيلية في القاهرة بعيد «الاستقلال»

التاريخ: 8 مايو 2018 

قائد البلاد- المشير عبد الفتاح السيسي

مساء الثلاثاء بدأ يصل المدعوون إلى فندق نيل- ريتز كارلتون (النيل هيلتون سابقا) والمطل على نهر النيل من جهة وعلى ميدان التحرير، رمز ثورة يناير، من جهة أخرى، تلبية لدعوة وصلتهم من السفير الإسرائيلي بالقاهرة، دافيد جوفرين. يقول نص الدعوة: «يسر سفير دولة إسرائيل في القاهرة الدكتور ديفيد جوفرين أن يدعوكم لصحبته في الاحتفال بعيد استقلال دولة إسرائيل وذلك في الثامن من مايو 2018 الساعة السادسة بقاعة ألف ليلة وليلة بفندق النيل كارلتون بالقاهرة». 

وقد تمت مراسم الاحتفال، كما ذكرت مصادر إسرائيلية، «بحضور لفيف من الدبلوماسيين ورجال الأعمال وممثلين عن الحكومة المصرية». وأضاف الخبر أن الحضور استمتعوا بعشاء إسرائيلي مميز، أعده الطباخ شاؤول بن أدبيريت مع فريق طهاة الفندق. وقد منح كل مشارك في الحفل على مدخل باب القاعة دبوسا معدنيا للعلمين المصري والإسرائيلي وكأنهما في حالة تلاصق دائم.

بعد عزف النشيد الوطني الإسرائيلي وقف السفير وخلفه العلمان المصري والإسرائيلي، وتحدث بلغة عربية غير سليمة مرحبا بضيوفه الأعزاء قائلا: «إن الشراكة المتينة بين مصر وإسرائيل تشكل قدوة ومثالاً لحلّ صراعات إقليمية ودولية في العالم أجمع حتى يومنا هذا. ومع ذلك، نحن اليوم في أوج معركة السلام. هذه المعركة تستوجب التغيير الواسع في الوعي والإدراك، وتحتّم إيجاد جو يسوده التسامح والتعرف إلى الآخر والصبر.

لا شك في أن الأمر يحتاج إلى عملية طويلة ومستمرة، ولكنها ضرورية لنشر السلام، ليس فقط بين الحكومات، بل ليعمّ أيضا بين الشعوب». وأضاف السفير: «ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أصبح شريك إسرائيل في مشاريع بلورة حقائق جديدة في المنطقة. كما نلاحظ التغيير في معاملة الدول العربية لإسرائيل، التي لا تعتبرها عدواً، بل شريكاً في صياغة واقع جديد وأفضل في المنطقة، واقع يستند إلى الاستقرار والنمو الاقتصادي». وتشير الأخبار إلى أن السفير السعودي الجديد لدى القاهرة أسامة نقلي، الذي وصل إلى مصر في 25 إبريل الماضي، قد حضر الحفل وشوهد وهو يصافح السفير الإسرائيلي، ويتحدث معه لفترة طويلة، بالإضافة إلى سفير البحرين راشد بن عبد الرحمن آل خليفة.

إنها المرة الأولى بعد عام 2011 التي تحتفل بها السفارة الإسرائيلية بجريمة التطهير العرقي الذي مارسته ضد شعب بريء، اقتلع من وطنه وشرد في المنافي. فمن كان يتخيل أن يحتفل الكيان بتلك المجزرة في قاهرة المعز بذكرى النكبة من حيث الزمان وقرب نقطة انطلاقة ثورة يناير من حيث المكان؟ 

ونود في النهاية أن نسأل من يمثل روح الشعب المصري وتاريخه وحصانته الوطنية – الآلاف الذين اقتحموا السفارة عام 2011؟ أم الحفنة المارقة التي حضرت احتفال السفارة بنكبة شعبنا العربي الفلسطيني عام 2018؟ كلنا ثقة بعودة القاهرة يوما ليس بعيدا إلى مكانها الطبيعي في قيادة الأمة وتصحيح الخراب الذي بدأ في كامب ديفيد 1979. 

القدس العربي

0
التعليقات (0)