كتاب عربي 21

جِنَازَتُه (1-2)

عبد الرحمن يوسف
1300x600
1300x600

رحيله المفاجئ... لم يكن مفاجئا!

توقع الكثيرون اختفاءه من المشهد بالسرعة نفسها التي بزغ بها نجمه، ولكنهم توقعوا ذلك الاختفاء برصاصة، أو قنبلة، أو بسقوط طائرة من طائراته الخاصة التي يختال بها اختيال أرنب بري ارتدى لبدة أسد في غفلة من الزمن.

رحيله المفاجئ بسكتة دماغية أثناء نومه بلا مقدمات... أمر لم يتوقعه أحد، ولم يتمنه أحد، حتى أولئك الذين تمنوا رحيله (وما أكثرهم) لم يتمنوا اختفاءه بهذا الشكل.. بلا شك كانوا يتمنون الرصاصة... أو القنبلة... أو الطائرة التي تنفجر في الجو!

 

رحيله المفاجئ بسكتة دماغية أثناء نومه بلا مقدمات... أمر لم يتوقعه أحد، ولم يتمنه أحد، حتى أولئك الذين تمنوا رحيله (وما أكثرهم) لم يتمنوا اختفاءه بهذا الشكل

 

 

الصور التي تسربت للجثة تثبت أن جسده سليم، وتعضد رواية السكتة الدماغية، صحيح أنها لا تنفي سيناريو الاغتيال، ولكن الأقرب للتصديق الآن هو أن الأمر قضاء وقدر، فهو لم يكن ليضع اللقمة في فمه، ولا الشربة في فيه دون أن تختبر.

ثلاثة أيام مرت ولا حديث للناس سوى أمر واحد، أمر غريب، ففي مثل هذه الحالات يتحدث الناس عن أسرار "الاغتيال/ الوفاة"، أو عما بعد الفقيد، من سيخلفه؟ وماذا سيفعل هذا القادم الجديد في البلاد والعباد؟ هل سيأتي على يديه فرج؟ هل هناك فرق بين من رحل وبين أي واحد ممن هم حوله؟

ثلاثة أيام مرت... ولا أحد يتحدث إلا عن أمر واحد... جنازته!

كان حريصا على إظهار نفسه كمُسلّمة لا شك فيها، ثابت من الثوابت المجمع عليها بين كل الناس.

كم من الأبرياء قتلوا لأنهم "خالفوا الإجماع"!

كم من المليارات أنفقت لتشجيع الجماهير على إظهار عواطفها عمليا في الشوارع في اللحظات الوطنية الحرجة، عند المبايعة، وعند معاركه مع خصومه، وعند استخدام العنف (قبله وبعده وأثناءه).

في رحلاته الخاصة كان دائما محاطا بالجماهير، كان أشبه ما يكون بمنتخب كرة قدم، أو فريق عالمي كبير يتحرك معه المشجعون حيث ذهب لدعمه أمام الفريق المنافس.

كانت "مبارياته" في الخارج (مثل مبارياته في الداخل) دائما رابحة.

 

يقول البعض إنه ما زال على قيد الحياة؛ لأن تجهيزات جنازته توحي بأنه يشرف بنفسه على التفاصيل الدقيقة للمشهد


صحيح أن مباريات الخارج بالذات كانت لا تخلو من المفاجآت والمواقف الطريفة، ولكن في النهاية كانت الجماهير تعلي صراخها بالتأييد للتغطية على الموقف.

يقول البعض إنه ما زال على قيد الحياة؛ لأن تجهيزات جنازته توحي بأنه يشرف بنفسه على التفاصيل الدقيقة للمشهد... مُخرِجُ المشهد يبدو حريصا على أن تكون جنازته مشهد وداع يليق بشيء لا يختلف فيه اثنان.

تساؤلات كثيرة تثار حول ترتيبات الجنازة، من الذي يدفع كل هذه الأموال للناس كي يحضروا في هذا المشهد؟ من الذي يهدد الناس إذا هم لم يحضروا؟

في هذه الأوقات ينشغل أصحاب النفوذ بتأمين سيطرتهم على البلاد والعباد، وبتجديد الولاءات للقادمين الجدد، وبحجز المواقع المميزة في شرفات النظام الجديد، وبحصار أي انشقاقات قد تحدث داخل فريق الحكم... وما أكثر هذه الانشقاقات، فهذا الراحل بتصرفاته الهوجاء، وعصبيته الزائدة، وعنجهيته المفرطة، وقلة ثقته في نفسه، وبشكوكه غير المنطقية في كل من هم حوله... تسبب في انشقاقات لا مثيل لها.

 

في هذه الأوقات ينشغل أصحاب النفوذ بتأمين سيطرتهم على البلاد والعباد، وبتجديد الولاءات للقادمين الجدد، وبحجز المواقع المميزة في شرفات النظام الجديد، وبحصار أي انشقاقات قد تحدث داخل فريق الحكم


لماذا لا يضمدون جراحهم؟ لماذا لا يعالجون هذه الانشقاقات؟ لماذا كل همهم وشغلهم الشاغل هو "جنازته"؟ لماذا كل هذا الحرص على المشهد المليوني الفخم الضخم؟

الإعلاميون يبكون ليل نهار على الشاشات!

وبرغم أنه من المفترض أن البلد في حالة حداد، إلا أن البرامج الكبرى استمرت في العمل، فترى القنوات طوال النهار تبث القرآن والأغاني الوطنية، وفي المساء تبدأ البرامج السياسية. لقد قدمت هذه البرامج عشرات الأفلام الوثائقية عنه، والمشترك في هذه الأفلام أمران، الأول: الكذب بشأن إنجازاته، والثاني: الدعوة لحضور جنازته... فريضة وطنية جديدة.

نقابات العمال هددت كل أعضائها.. لا بد من المشاركة في جنازته، حزن العمال على فقده لا بد أن يظهر في شكل مئات الآلاف من العمال يحملون آلاف اللافتات.

رجال الأعمال وعدوا بصرف حوافز لكل موظفيهم، برغم الأزمات الاقتصادية المتتالية التي تسبب فيها الراحل خلال السنوات التي حكم فيها.

السفارات في الخارج أنفقت ملايين العملات الأجنبية لكي تقام جنازات رمزية ووقفات تأبين في اللحظة نفسها التي تنطلق فيها جنازته في أرض الوطن، والحشد لذلك على قدم وساق بكل وسائل الترغيب والترهيب.

جميع المعاملات والمصالح في السفارات مُعلّقة لجميع المواطنين، لا بد من الحضور للسفارة في هذه المناسبة، وحضورك يضمن لك إنهاء معاملتك فورا.

الكل يحشد للجنازة في الداخل والخارج... الجمعيات الزراعية، الجمعيات الاقتصادية، جمعيات رجال الأعمال، الطرق الصوفية، الجمعيات الخيرية، الكنائس والمساجد، اللجان الشعبية لسائر المهن، القبائل على طول وعرض البلاد، اتحادات الرياضات الأولمبية وغير الأولمبية...!

لذلك قرر كثير من الناس حضور الجنازة بدافع الفضول أولا وقبل كل شيء.

آخر جنازة مليونية في هذا البلد كانت منذ عشرات السنين، وكان عدد السكان حينئذ ربع العدد الحالي.

 

هناك منافسة خفية مع التاريخ، هذا الرجل كان دائما يقارن نفسه بالآخرين، وكان دائما يتفوق على الجميع طبعا


هناك منافسة خفية مع التاريخ، هذا الرجل كان دائما يقارن نفسه بالآخرين، وكان دائما يتفوق على الجميع طبعا.

كان يقارن نفسه بالأحياء، وكان يقارن نفسه بالأموات حين كانوا أحياء، ويبدو أنه (بعد أن مات) يريد أن يتفوق عليهم ميتا كما تفوق عليهم حيا!

وبرغم ذلك... لقد كانت كل دعوات حضور جنازته كوما... وهذه الدعوة كانت كوما آخر!

يقول المثل: "يقتل القتيل ويمشي في جنازته".. لا غرابة في ذلك، كم من قاتل مشى في جنازات قتلاه، ولكن الغريب أن يطلب (أو يجبر) القاتلُ القتيل أو أهله على المشي في جنازته هو (أي القاتل)!

لقد أجبروا من حكم عليهم بالإعدام، وبعض من أعدموا بالفعل، والمعتقلين والسجناء وبعض ذويهم؛ على حضور جنازته!

هل سيحضرون؟ ما هي الظروف التي تمت فيها المفاوضات؟ هل أجبروهم؟ هل وعدوهم بعفو عام؟ هل هناك حدث ما يتم ترتيبه في الجنازة؟ بيعة لشخص جديد؟ مجزرة جديدة؟

حين بدأت إشاعة المجزرة بالانتشار ردت الأجهزة الإعلامية فورا، وأظهروا الإجراءات الأمنية، وصرحوا بتفاصيل كثيرة ليطمئن الناس.

كيف ستكون الجنازة؟

نكمل الأسبوع القادم...

موقع إلكتروني: www.arahman.net
بريد إلكتروني: [email protected]

1
التعليقات (1)
ابراهيم صبح
الثلاثاء، 22-05-2018 03:37 ص
عالم عجيب غريب الماكينات الاعلاميه هي السحر بعينه