مقالات مختارة

قطر والحصار الظالم: رب ضارة نافعة!

عبد الحميد صيام
1300x600
1300x600

زرت قطر في مايو السنة الماضية، قبل أسبوعين تقريبا من قيام الدول الخليجية الثلاث، السعودية والإمارات والبحرين، بالإضافة إلى مصر، بفرض حصار شامل وفجائي على قطر في الخامس يونيو 2017. ثم عدت إلى قطر في مايو الحالي. في المرة الماضية جئت للمشاركة في مؤتمر أكاديمي في الذكرى الخمسين لحرب يونيو، وفي المرة الحالية للمشاركة في مؤتمر أكاديمي بمناسبة الذكرى السبعين للنكبة. 

وبين الذكرى الخمسين للنكسة والسبعين للنكبة، بـُليت قطر بحصار غير مسبوق من الإخوة والجيران وأولاد العمومة والحلفاء والأقرب إلى مكونها السكاني، عرقا وتاريخا وعادات وتقاليد وثقافة. وكانت تلك الدول تعتقد أن قطر ستنهار وبسرعة مهولة، نتيجة تشابك العلاقات التجارية والاقتصادية والمصرفية والسياحية والمواصلات والاتصالات مع تلك الدول، خاصة السعودية التي كانت تصدر لقطر 40% من احتياجاتها الغذائية. 

وصلت البلاد هذه المرّة وأنا أعتقد أن قطر تئن تحت الحصار الشامل، وأن مشاريعها الكبرى ستتوقف أو تتأخر، خاصة ما يتعلق بكأس العالم 2022، وأن نقصا في المواد الغذائية لا بد أن تلتقطه عين المراقب. وأعترف بأن لديّ حساسية خاصة من كلمة حصار. فهذه الكلمة تثير فيّ الشجى والوجع، بعد أن عاينت شخصيا تجربة مع دول عانت من أنياب الحصار الظالم، مثل العراق الذي زرته للتعرف على آثار الحصار الشامل عام 1997، وليبيا التي زرتها مع وفد أممي عام 1998 لإعداد تقرير حول نتائج الحصار، ناهيك عن غزة التي أصبحت أكبر سجن آدمي لمليوني محاصر، لكن الحصار على قطر من ذوي القربى، وكم هو موجع ظلم ذوي القربى، مختلف تماما، فلا تكاد تجد له أثرا على المواطنين، بعد سنة كاملة. وأصبح المحاصرون هم الخاسرين معنويا وماديا. 

شغلت نفسي في هذه الزيارة القصيرة أبحث عن أجوبة لسؤال واحد وهو كيف استطاعت قطر تجاوز الحصار الشامل الذي فرضته تلك الدول؟ كيف لبلد صغير لا منفذا بريا له إلا عبر الجار السعودي، يتحمل مثل هذا الضغط الشديد؟ التقيت بعدد من المسؤولين في وزارة التخطيط، وجامعة قطر، ومجموعات نسائية وشبابية وطلاب وعدد من الأصدقاء العاملين في مجالات الإعلام، بالإضافة إلى عدد من الباحثين الذين يعملون في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومعهد الدوحة للدراسات العليا. وكلما سنحت الفرصة أثناء اللقاءات كنت أحاول جرّ الحديث إلى موضوع الحصار وأثره على الناس، وكيف تخطت قطر هذه الحفرة الواسعة التي جربت دول الجوار رميها فيها. وسأحاول في هذا المقال أن أعرّج على بعض الملاحظات وأذكر بعض الخطوات التي اتخذتها قطر لدرء مخاطر الحصار، كما سمعتها من الذين التقيت بهم من مواطنين ومقيمين.

هول المفاجأة

فوجئ القطريون بقيام السعودية والإمارات والبحرين ومن خلفهم مصر صبيحة الخامس من يونيو 2017 بقطع العلاقات مع بلدهم، وفرض الحصار وإغلاق الحدود، وإغلاق الأجواء وإغلاق مكاتب الطيران، وطرد المواطنين القطريين وسحب مواطني تلك الدول من قطر خلال أسبوعين، وسحب الاستثمارات والشركات، وطرد الطلاب من المدارس وتشتيت العائلات، بل شملت الإجراءات تهديد الدول التي تتلقى مساعدات من تلك الدول، إن لم تقطع علاقاتها مع قطر. وقد سمعت أكثر من قصة حول عائلات تشردت، منها عائلة عادت الأم وطفلتها إلى الإمارات أو البحرين، ويحاول الوالد أن يقنع الزوجة بلقائه في عُمان كي يشاهد طفلته ابنة السنتين والعكس صحيح أيضا. حكايات من معهد الدوحة للدراسات العليا حول الطلبة الذي اضطروا للمغادرة قبل الانتهاء من دراساتهم بعام أو فصل، كما أن بعض الطلبة في المعهد طردوا من تلك الدول قبل الانتهاء من دراستهم. 

ولكن بعد هول المفاجأة تيقن القطريون أن تلك الدول تحاول، إن تمكنت، أن تهدم البلد كله وتغير حكامه وتدمر قناة «الجزيرة» أولا، بل كما سمعت مرارا أن تلك الدول كان لديها مخطط يشير إلى عملية إنزال جوي لاحتلال مواقع حيوية في قطر، والقيام بانقلاب يؤدي إلى تغيير النظام كليا. لكن القيادة القطرية اتخذت عدة خطوات من بينها الاستعانة بقوة تركية وصلت الدوحة على عجل فأفشلت مؤامرة التدخل العسكري، لكنها لم تفشل خطوات الضغط والحصار ومحاولات الخنق والشيطنة والعزل والتهديد.

لقد أحس القطريون بأن بلدهم مستهدف فتكاتفوا وارتقوا إلى مستوى المسؤولية. ألغت الغالبية الساحقة منهم رحلاتهم إلى الخارج وفضلوا أن يبقوا في البلاد، وقد اختاروا أن ينعشوا اقتصاد بلادهم فحجزوا إجازاتهم في فنادق المدينة التي شهدت في بداية الأزمة وضعا صعبا، بسبب اعتماد كثير منها على الرحلات البينية لدول الخليج. وكادت الفنادق تسترد عافيتها بسبب هذه الخطوة، وإلغاء فكرة السفر إلى لندن وباريس وجنيف. لقد كان الحصار سبباً لاكتشاف القدرات البشرية المحلية والإمكانات المادية التي تتمتع بها قطر، وسرعة تجاوب القطريين مع الإجراءات والتوجهات الجديدة لإفشال الحصار. 

من جهة أخرى شجعت الحكومة الاقتصاد المحلي والمشاريع الإنتاجية السريعة، فقد قام مجموعة من القطريين باستيراد 4000 بقرة ليصل مجموع الأبقار في المزارع القطرية إلى 8000 ووصل عدد الأغنام المستوردة إلى 100000 رأس. وأصبحت شركة «بلدنا» التي أسست عام 2014 منتجا رئيسيا، وتكاد الآن تغطي احتياجات السوق المحلية بالأجبان والألبان والتي كانت تستورد بكاملها من السعودية. كما أقرت الحكومة إعطاء قروض سريعة وبفوائد رمزية أو بدون فوائد لكل من يقيم مشروعا صغيرا ولو في بيته. فانتشرت الشركات الإنتاجية الصغيرة في كافة البلاد. وفي جولة مع صديق فلسطيني في إحدى الأسواق التجارية الكبرى دخلنا إلى محلات كارفور لنشاهد الخضار والفواكه والألبان وبعض اللحوم والدجاج المنتجة في قطر وقال معلقا «لقد عززت هذه الأزمة ثقة القطريين بأنفسهم ورفعت من مستوى تعلقهم بوطنهم وقيادتهم وإحساسهم بالمسؤولية».

لعبت عُمان والكويت دورا كبيرا في التخفيف من حدة الأزمة، لكن الذي أنقذ البلاد على المستوى الأكبر تطوير العلاقات التجارية بين قطر وتركيا وإيران والهند والصين وماليزيا وإندونيسيا. ولا تجد قطريا واحدا لا يثني على دور تركيا خاصة، وإسهامها الكبير في توفير السلع الغذائية خلال الأيام الأولى للحصار، كما تطوعت دول عربية كالجزائر والمغرب وتونس لإرسال مواد غذائية وبضائع، بدون أن تطلب منها قطر ذلك. ويبدو أن دول الحصار كانت تهدف أساسا إلى تدمير الاقتصاد القطري واستقراره، وكانوا يتوقعون هروب الاستثمارات الخارجية بطريقة جماعية تؤدي إلى انهيار العملة المحلية. ولكن أيا من ذلك لم يحدث وبقيت السوق المالية والمصرفية والاستثمارات ثابتة ومتطورة. لقد استطاعت الحكومة القطرية أن تحول الأزمة التي أوجدها الحصار إلى فرصة لتفعيل الاقتصاد القطري ورفع مستوى المشاركة الشعبية في ذلك التفعيل.

والذي خفف من مخاطر الأزمة كذلك افتتاح ميناء حمد الكبير في يوليو 2017 ليستقبل السفن التجارية الكبرى، ودشنت الدولة خطوطا بحرية مع عُمان والكويت وإيران والهند ولم تعد قطر بحاجة إلى الاعتماد على موانئ الإمارات أو السعودية. كما عقدت اتفاقا مع شركة «ميرسك» الدنماركية، أكبر شركات نقل الحاويات في العالم، لتنقل الحاويات من ميناء صلالة العماني إلى ميناء حمد. أما شركة الطيران القطرية فقد نشطت لسد فراغات تركها الحصار وأصبحت من أفضل الشركات العالمية، واحتلت المرتبة الأولى عربيا والرابعة عالميا، والأولى من حيث المسافات الطويلة.

والأهم من هذا وذاك أن خطوط تصدير النفط والغاز، عمود الاقتصاد القطري، ظلت متواصلة، حيث تبحر الناقلات عبر المياه الإيرانية ثم مضيق هرمز فالمياه العُمانية. ولم تتعرض إمدادات النفط والغاز إلى أي محاولة لمضايقته؛ لأن ذلك سيؤدي إلى أزمة عالمية، وردود فعل من كبار المستوردين مثل اليابان وكوريا الجنوبية والصين والهند.

الدوحة تبدو الآن ورشة عمل كبيرة. أينما اتجهت تجد الرافعات والجرافات والمعدات الثقيلة تفتح طرقا جديدة أو توسع طرقا ضيقة أو تشيد الملاعب وخطوط قطار الأنفاق والقطارات والقطار الخفيف والأسواق الكبرى والمرافق، وتكاد البنى التحتية لاستقبال مونديال 22 تكون جاهزة. ولا نشك بأن دول الحصار ستعمل على تخريب تلك التظاهرة الرياضية الأكبر، إن تمكنوا من ذلك ولا أعتقد أنهم قادرون. وقد يكون من بين أسباب الحصار، إضافة إلى قناة «الجزيرة» التي قهرت كثيرا من أنظمة الطغيان، اختيار قطر لتكون أول دولة عربية تجري على ملاعبها مباريات كأس العالم. 

رب ضارة نافعة، هكذا يقول الكثيرون في قطر. فهذا الحصار الظالم عمق معنى الانتماء للوطن ومفهوم الصمود والانتصار للكرامة الوطنية. والدول في النهاية لا تقاس بأحجامها وعدد سكانها بل بمواقفها وأدوارها وتأثيرها.

القدس العربي

0
التعليقات (0)