كتاب عربي 21

إسهال قضائي

طارق أوشن
1300x600
1300x600

قضيتان مثيرتان حكم القضاء المغربي فيهما في ذات اليوم، والنتيجة تثبيت لحكم إعدام ومؤبد وتوزيع مئات سنوات الحرمان من الحرية على المتهمين.

 

لا شيء يربط بين القضيتين غير "قساوة" الأحكام ويوم صدورها. إنه إسهال أصاب القضاء المغربي وينذر بآت من الأيام، تتواصل فصوله في قاعات نفس المحكمة بالبيضاء، في قضيتي الصحفي حميد المهداوي، الذي ارتبط ملفه بملف حراك الريف قبل أن يفصل عنه، وناشر جريدة (أخبار اليوم) توفيق بوعشرين المتهم بـ"الاتجار بالبشر باستغلال الحاجة والضعف، واستعمال السلطة والنفوذ لغرض الاستغلال الجنسي عن طريق الاعتياد والتهديد بالتشهير".

 

في القضية الأولى "خيانة زوجية ومال وجنس" بطلها مستشار جماعي وابن أخته و"مشعوذة" وأرملة القتيل النائب البرلماني قيد حياته. وفي الثانية "خيانة للوطن" واتهام بـ"المشاركة في مؤامرة تمسّ بأمن الدولة والمشاركة في تظاهرة غير مرخصة وإهانة القوات العمومية وانتحال صفة".


بدأت فصول محاكمة عدد من "قادة" ومتظاهري حراك الريف بالمغرب منذ شهور تلت اعتقال المتهمين، بعد أشهر طويلة من التحرك الميداني الذي حول منطقة الريف لبؤرة توتر أعادت إلى الأذهان كثيرا من فترات تاريخ صراع بين المنطقة والسلطة المركزية ظل يستعر ويخبو على مدار عقود.

 

ولم يكن لاستعادة المتظاهرين وقادتهم لرموز مرحلة الصراع تلك من علم، اعتبرته الدولة دليل رغبة في تغذية طموحات الانفصال، وشخصيات لا تزال ذكراها تقض مضجع السلطة المركزية حتى اليوم.


امتدت المحاكمات على مدار أكثر من ثمانين جلسة كانت مفتوحة أمام الرأي العام المحلي والدولي، بعد أن تم "تهريبها" بعيدا عن منطقة الريف لتستقر أطوارها بمحاكم الدار البيضاء.

 

استمعت الهيئة لكل الأطراف وفتحت المجال للمرافعات فقدمت الدولة "إثباتاتها" وأنكر المعتقلون ومحاميهم الاتهامات الموجهة إليهم وطعنوا في الأدلة المقدمة قبل أن ينتهوا إلى مقاطعة المحاكمة وجلساته النهائية وكلمات الدفاع الأخيرة تيمنا على ما يبدو بفكرة "المقاطعة" التي صارت الشعار الذي لا يعلى عليه في الشارع والسوق وأماكن تنظيم المهرجان.

 

انتهت الحصيلة، في مرحلتها الأولى، إلى أحكام اعتبرها دفاع الدولة "مخففة" بالنظر إلى "خطورة" الاتهامات، وانتقدتها الأصوات الحقوقية من مشكك في عدالة المحكمة إلى مصدوم من قساوة الأحكام.


تحققت "نبوءة" ناصر الزفزافي حين صرح في خطاب له أيام الحراك أن استراتيجية الدولة تتلخص في ربح الوقت والدفع بتيئيس المواطنين من جدوى الخروج في مظاهرات حتى يعزل المحركون للشارع عن حاضنتهم ويسهل اعتقالهم والزج بهم في السجون لعقود. 

 

ذاك ما تحقق فعليا على الأرض، ومشكلة الزفزافي أنه لم يقدم حلا ولا بديلا إنْ على مستوى جدولة تحقيق المطالب بالتوافق مع الدولة أو على مستوى استمرار الحراك بوهجه حال اعتقال "الأفاعي" كما أسماهم يومها، من محبرة السلطة، قاصدا القادة الميدانيين.


الآن، وبعد أن صدرت الأحكام، يطرح السؤال: وماذا بعد؟


يعتقد كثيرون أن ما أقدمت عليه الدولة وجهازها القضائي "خطأ تاريخي" سيدفع المغرب ثمنا له من استقراره السياسي وصورته أمام حلفائه الغربيين وأمام المنظمات الدولية العاملة في مجال الحريات.

 

"الشتات" الريفي بأرض المهجر ينذر بنقل المعركة إلى آفاق أكبر خصوصا مع ما تمنحه الأحكام تلك من قبلة حياة لاحتجاجات داعمة كانت بدأت قبل أن تخفت وتفقد وهجها. أما على المستوى الداخلي، فخطر تجدد الاحتجاجات يبقى قائما بالنظر إلى ما اعتبر نوعا من تغذية "الحكرة – الغبن" التي كانت بالأساس منطلق الاحتجاجات مع مقتل بائع السمك محسن فكري بشكل قد يعرف تمددا لمناطق أخرى ليست مدينة جرادة إلا مقدمة لها.


لا يمكن للدولة أن ترتكن إلى هدوء نسبي يخفي سخطا ونقمة متصاعدين، وتعتبر الأمر انتصارا لمقاربتها "الأمنية" فالفتنة "قائمة" لا تنظر إلا من يوقظها.

 

ولعل ذلك ما دفع كثيرين إلى التحذير من ضبابية مستقبل احتقان اجتماعي مع تجسد أشكال نضالية بديلة كالمقاطعة، وإن تم تمييعها بدعوات غير محسوبة بعد "نجاح" الفعل الأولي في مواجهة شركة سانطرال، بما تمثله من طريقة أأمن وأخف أضرارا على المنادين إليها في مواجهة أجهزة السلطة وأحكامها.

 

الغريب أن يتصدى وزير سابق، شمله "زلزال" الإعفاء والسخط الملكيين على خلفية احتجاجات الريف، متحدثا بصفته أمينا عاما لحزب مشارك في الحكومة، أن الأحكام الصادرة "لن تسهم في إذكاء جو الانفراج الذي نتطلع إلى أن يسود في بلادنا" آملا أن "يتم إعمال كافة سبل المراجعة القانونية والقضائية الممكنة بالنسبة لهذا الملف بِمَا يمكن من ضخ النفس الديمقراطي اللازم في الحياة السياسية الوطنية".

 

ولم تختلف خطابات الساسة حزبيين ومسؤولين عن دعوة نبيل بن عبد الله التي لا تخرج عن طلب "العفو الملكي".

 

وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان مصطفى الرميد أبدى أمله في أن "تصدر أحكام أكثر عدالة، تُكرِّس الثقة في القضاء، وتُؤسس لمصالحة جديدة مع سكان المنطقة".

 

أما الهيئات الحقوقية وبعض أحزاب اليسار وجماعات خارج اللعبة السياسية، فلا ترى غير "الإفراج الفوري عن المعتقلين والاستجابة لمطالبهم" حلا لما تسميه المأزق السياسي المأزوم وارتباك "الدولة العميقة" في مواجهة الاحتجاجات الشعبية المشروعة.


الأحكام الزجرية حق للسلطة القضائية تحكم به بما توفر لديها من حجج وقرائن، ورفع درجات التقاضي مكفول للمحكومين استئنافا ونقضا، أما العفو الملكي فإجراء سياسي استثنائي.

 

والطبيعي أن نترك المؤسسات تمارس عملها وفق القانون والدستور لأن الإبقاء على "الاستثناء" تقويض لعمل المؤسسات.

 

وإشكالية المغرب أن كثيرا من أطراف الأزمة تعتقد أنها قد تكون طرفا في الحل.

 

وبين رفض تسييس أحكام القضاء والمطالبة بحل سياسي يتجاوز المسار القضائي، يقع الطرفان في تناقض الدعوة لتكريس دولة الحق والقانون والدعوة الموازية للقفز عن مؤسسة القضاء بدعوى "الشك في نزاهته ورضوخه للإملاءات السلطوية". والإشكالية الأكبر هو اطمئنان السلطة لقوة أجهزتها وجبروتها في مواجهة المحتجين. 


التاريخ يؤكد أن الزجر وحده لا يكفي لتحقيق العمران..

1
التعليقات (1)
يوسف العلوي
الخميس، 28-06-2018 09:54 م
المغرب يسير نحو زعزعة استقراره بالعودة إلى سنوات الرصاص وتسخير العدالة لمصالح أشخاص كما هو الشأن في قضية بوعشرين. .إن لم تتدخل الجهات العليا لتصحيح العبث فإن صلاة الجنازة مسألة وقت لاغير على استقرار المملكة.