قضايا وآراء

المسيري في ذكراه: ضوء ومعنى ونهج نبيل

هشام الحمامي
1300x600
1300x600

غدا الاثنين 2/7/2018 تكون قد مرت على وفاة الدكتور عبد الوهاب المسيري عشر سنوات كاملة، مرت كأنها الطيف أو حلم في الكرى (النوم) كما يقولون. وحين نعاه وقتها الصديق الكريم والمؤرخ الكبير الدكتور بشير نافع؛ قائلا: "بغياب عبد الوهاب المسيري، لن تعود القاهرة كما كانت"، تصورت أن العاطفة غلبت على صاحب "العقل الحنون"، الدكتور بشير، وأخذته مأخذا بعيدا بعض الشيء، خاصة وأنا شخصيا أعلم قدر الحب والاحترام الكبيرين بينهما، أيضا شاهد عيان على كثير من شواهد هذا الحب وهذا الاحترام.

 

لكن بالفعل كان المؤرخ الذي اعتدناه يحدثنا عن الماضي كان قد "تشوّف" ما لم نره، فقال قولته التي قالها وهو من الصادقين.. ولم تعد القاهرة كما كانت، وكان في حاله معنوية ونفسية طيبه ووادعة، ابتسامته أضوأ، عيناه أوثق، ووجهه يفيض بالبهجة البريئة التي اعتدناها منه.. جلسنا، وكانت الحكاية والنكتة والتعليق، ثم انصرفتُ. ولن أنسى ما حييت نظرات عينيه ويدي في يده مودعا، وهو جالس على الكرسى بجوار السرير، فقد كانت الجلسة الأخيرة، ثم كان الصباح ونادى المنادي أن "ذهب الناس ومات الكمال قوموا.. وانظروا كيف تسير الرجال".. وأصبحت الدنيا خلوا من المسيري، وتركنا نبحث في الحاضر اللئيم عن ثغره نهرع منها إلى أحلامنا.

كنا نلتقى في بيته من فتره لأخرى، وأذكر أنه طلب مني ذات مرة أن أعد نفسي لمناقشه كتاب من تأليف أحد أصدقائه< كان قد ألح عليه في عرض الكتاب في أحد هذه اللقاءات، وكان موضوع الكتاب لا يوافقني، فأحرجت منه، وأخذت الكتاب وحاولت ولم أستطع، فأخبرته، فقال: وأنا أيضا، لكني لا أستطيع رد طلب هذا الصديق، وبالفعل تخيّر للكتاب أحد الأصدقاء المناسبين، وأكرم خاطر صديقه.

من أكثر ما كان يحيرنى معه - رحمه الله - علاقته بالراحل الأستاذ هيكل (الصديق عبد الله السناوي وكان من أقرب الصحفيين للأستاذ هيكل قال لي: المسيري مسموح له مع هيكل ما لا يسمح لأي أحد). المهم أن الأستاذ هيكل كان يصف نفسه دائما بأنه آخر واحد يمكن آن يلتفت إلى علاقة الدين بالدنيا، والدكتور المسيري رحمه الله كان يصر على أن يسبق اسمه لقب "المفكر الإسلامي"، وكان حين يسمع صوت الأذان ونحن نتناقش ونتحاور؛ يوقف الحديث لحين تمامه.. ومع التباين بينهما، فقد كان الوفاء في علاقتهما منقطع النظير. كتبت مره معاتبا الأستاذ هيكل في أحد المواقف، وقلت للدكتور المسيري عن ذلك، وكان قد قرأه، وحين التقى هيكل سأله عما إذا كان قرأ ما كتبته، فقال له قرأته مرتين!! ولم يزد.. أخبرني بعدها الدكتور المسيري بحوارهما، فقلت له: ألن تتغير نظرة الأستاذ هيكل لهذا الموضوع؟ قال: "لا أعتقد.. قد تتطور، ولكنها أبدا لن تتغير". وأوصانى بجمع كل ما لدي من كتابات في هذا الموضوع، وأبدى اهتماما وحماسا كبيرا لإعطائها للأستاذ هيكل. واندهشت لهذا الأمل البعيد وهذا الحب المديد، وكل قد أفضى الى ما قدم.

حين تناول وزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى موضوع الحجاب بطريقه ليست جيدة، كتب المسيري مقالا نشره في الأهرام اليومي والأهرام ويكلي (الإنجليزي)، وبتواضعه المفرط سألني عن رأيي، فقلت له: "من أعمق وأشمل ما كتب في موضوع الزي الإسلامي، ويا ليته ينشر على نطاق واسع على الإنترنت".. فقال لي: "افعل ذلك". وبالفعل نشر المقال تقريبا في كل الدنيا.

حين عاد من أمريكا في بداية السبعينيات، وكان وقتها عمره 32 عاما (مواليد 8/10/1938)، وكان قد حصل على الدكتوراة في الأدب الإنجليزي، وكما يقول: "كنت ممتلئاً ثقة بمقدرة الإنسان على تغيير واقعه وإقامة العدل على الأرض"، حرص على الانخراط في حركة المجتمع بالمعنى الإنساني والحضاري، وليس المادي.. خلال هذه الفترة تحديدا هاجمته كما يقول "ثلاث ذئاب شرسة"؛ استحوذ هو عليها بدلا من أن تستحوذ هي عليه، وهي بالغة الشراسة بالفعل تجاه المشتغلين بالعمل العام: ذئب الثروة، وذئب الشهرة، والذئب المعلوماتي؛ الذي يصفه بأنه أخطر هذه الذئاب علميا وموضوعيا وأيضا ذاتيا..

ذئب الثروة كان هشا وضعيفا عند الدكتور عبد الوهاب، وهو ليس كذلك بوجه عام، إذ يكفي صحبته للأستاذ هيكل الذي كان يرفل في الثروة من رأسه حتى أظافره، ويعيش حياته مغموسة غمسا في الترف والنعيم، متأثرا في ذلك بأستاذه محمد التابعي.. لم يتأثر الدكتور عبد الوهاب بحالة الأستاذ هيكل، كما حدث لهيكل مع التابعي، لكنه كان يدرك أهمية المال، فلا بد للدنيا لمن كان في الدنيا-  كما يقولون - فاقتنى بيتا جميلا لم يعقه المال عن أن يبنيه وينهيه بالشكل والجمال الذي يرتضيه، وهو كذلك بالفعل، وكان يحسن استقبال ضيوفه على أكرم وأسخى ما يكون الاستقبال والضيافة.

كان يود ان يكون مشهورا، وسعى في سبيل ذلك وحقق شهرة لا بأس بها في الثلاثينيات من عمره، لكن سفره لأمريكا من منتصف السبعينيات الى بداية الثمانينيات جعله مغمورا، وحين عاد ثانية إلى القاهرة وفُرض عليه طوق عزلة قاسٍ بعد كامب ديفيد، وكما يقول "وجدت نفسي نًكٍرةعلى حين غرة"، هنا بدأ ذئب الشهرة يهاجمه بشراسة. وقد تعامل المسيري مع هذه الصدمة الحضارية برقي وتفهم عميق، وأدرك جوهر الأمر، فيقول: "كان على أن أجلس إلى نفسى وأفكك موضوع الشهرة هذا وأضعه في حجمه الطبيعي"، و"أريد أن أكون مشهورا، لا للشهرة في حد ذاتها، وإنما لكي أحقق ذيوعا لأفكاري، كما أن الشهرة تمنح المرء قدرا من الحصانة في المجتمعات الاستبدادية؛ تحمي من الاعتقال والأذى بدرجة ما، واستطعت أن أسيطر على هذا الذئب" كما يقول رحمه الله. وهو يرى أن شهوة الشهرة والجاه وذيوع الصيت أشرس وأعنف من شهوة جمع المال والثروة.

وكما فعل الدكتور عبد الوهاب مع الثروة والشهرة، فعل مع الذئب المعلوماتي/ المعرفي، أخطر الذئاب كما يقول، خاصة بالنسبة للعلماء والمفكرين. يقول في ذلك: "التوحش المعرفي يتطلب من الإنسان أن يصل إلى أعلى مستويات التجريد، أيضا مع أدنى مستويات التخصيص، وهذا يفوق قدرة البشر المحدودة.. فقط تكفي نظرة شبه كلية وبعض المعلومات والشواهد التي يبنون من خلالها رؤيتهم العامة والنظرية". ويقدم أجمل وأروع نصائحه في هذا المعنى، فيقول: علينا أن نفرق بين الكمال والاكتمال.. علينا أن نكمل ما بدأناه وننتهى منه بأي وجه من الوجوه، وليس بالضرورة الوصول به إلى الكمال.. الكمال يفوق قدراتنا البشرية".

يمثل ما كتبه الدكتور المسيري عن رؤيته للخطاب الإسلامي الجديد؛ نقلة نوعية كبيره في الفهم والطرح الإسلامي، وأتصور أنه لم يأخذ الاهتمام الذي يستحقه من أبناء الحركة الإسلامية. كذلك فضه لمغاليق العلمانية وتطويعها للفهم الإسلامي الصحيح، وهو ما أحدث ارتباكا شديدا لدى أصدقائنا العلمانيين.. وقل مثل ذلك عن الحداثة وما بعد الحداثة (رفض المرجعيات)، والنماذج التفسيرية الدقيقة لكثير من المعضلات الفكرية المحيرة، فلفت الأنظار بقوه إلى خطورة فصل القيم الإنسانية والأخلاقية عن مجمل حياه الإنسان، فتصبح كل الأمور نسبية، ويصبح العالم مادة استعمالية. وأكد أن فكرة فصل الدين عن السياسة فكرة عبثية، وأن الإنسان لا يمكن تقسيمه وفصله إلى مادي ومعنوي/ ديني وعلماني، فكل هذه الجوانب متشابكة وممتدة. ففصْلُ الدين عن الدنيا يتجاهل البعد الإنساني والروحي في الإنسان، فيتحول الإنسان إلى كائن جسماني استهلاكي ليس له انتماء واضح، بلا ذاكرة تاريخية، منشغل بتحقيق متعه الشخصية، يدور في دائرة ضيقه للغاية خارج المنظومة الأخلاقية والقيمية والاجتماعية.

محمود درويش يبكى نفسه شعرا ويبكينا ويبكى من نحب؛ في قصيدته الشهيرة "فى حضرة الغياب"، ويقول: "فأنت مسجى أمامي/ كقافية غير كافية لاندفاع كلامي/ إليك أنا المرثي والراثي/ فكُنَى كي أكونك/ قم لأحملك/ اقترب مني لأعرفك/ ابتعد عني لأعرفك".

فى القرب عرفناه، وفي البعد عرفناه، لكن بقوانين الحياة كلما ابتعد أكثر كلما عرفناه أكثر. يقولون إن المعاصرة حجاب، بما يعني أنك لا تعرف قدر الناس الذين تعيش معهم في عصر واحد ولا تعرف قيمتهم إلا بعد مسافة زمنية تأخذها منهم، قد تطول وقد تقصر. هذه المقولة حاولت وأنا في وعي بها تماما أن أضعها إلى جوار العلامة عبد الوهاب المسيري، فلم أجد لها مكانا، فقد كنا نعرف قيمته وقامته في حياته، ولا زالت تلك القيمة ممتدة إلى اليوم، ذلك أنه منحنا ضوءا فكريا كبيرا ومنيرا.. عرفنا به المعنى وكشفنا به الطريق.

التعليقات (0)