قضايا وآراء

فرنسا تحتفل.. كثير من الجماجم وكثير من الأفكار

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
"... داست عجلات العربة الفخمة التي كانت يستقلها الماركيز ايفرموند على طفل صغير فقتلته. لقد كانت العربة منطلقة بأقصى سرعة في شوارع باريس وحواريها الضيقة المملوءة بالرجال والنساء والأطفال من أبناء الشعب الفرنسي الفقير البائس الذين يبدون جميعاً كالعبيد أمام النبلاء، توقفت عربة الماركيز ايفرموند قليلا بعد أن مات الطفل المسكين الذي حمله أبوه بين يديه وهو يبكى بكاء مرا،لم يهتم له الماركيز الذي أخرج كيس نقوده وألقى بقطعة ذهبية على الأرض كتعويض عن مقتل الطفل المسكين وانطلقت العربة بعد ذلك خارجة من باريس الى الريف حيث وصلت إلى المنطقة التي يقع فيها قصر الماركيز مارة بقرية صغيرة يعيش فيها عدد قليل من البؤساء الذين يعانون من دفع الضرائب الفادحة. التي تفرضها عليهم الدولة والكنيسة..".

هذا ما أورده الكاتب الإنجليزي الشهير تشارليز ديكنز (1812-1870) في روايته الأكثر شهرة "قصة مدينتين"، والتي تؤرخ للثورة الفرنسية تأريخا اجتماعيا مفصلا. وبالفعل، صدق من قال الرواية هى التاريخ الخاص للشعوب (الرواية كتبت عام 1859). والحق أن تاريخ الثورة الفرنسية منذ اندلاعها 1792م وحتى الجمهورية الخامسة 1958م المستمرة حتى الآن.. هذه الثورة بكل مراحلها وأحداثها تعد الخط التاريخي الأكثر بروزا وتأثيرا في تاريخ أوروبا بالمعنى الفكري (أفكار الحرية والمساواة) والسياسي (الجمهورية) والديني (عزل الكنيسة). لكن اللافت للنظر أنها كانت ثورة دموية بامتياز، إذ يكفى أن تذكر كلمة "مقصلة" لتتداعى إلى ذهنك مشاهد الرؤوس المتدحرجة كالحجارة أمام جماهير تصيح وتهلل مع كل رأس تتدحرج بعيدا عن صاحبها، وأيا ما كان الظلم الظليم الذي عاشته هذه الجماهير (والمقطع الذي أوردته أولا من قصة مدينتين به ما يكفى ويزيد من مشاهد الظلم)، إلا ان دموية الأحداث في كل مجريات انتقالها كانت صفحة مسيئة إساءة بالغة لفكرة الثورة وتاريخ الثوار.

ويبدو أن الأمر أكبر من كونه ثورة اصطدمت بالبدن الثقيل للسلطة الملكية في فرنسا وأوروبا كلها، إذ سيلفت انتباهنا أن الثقافة والتاريخ والإنسان الفرنسي من قديم غارقون في الدماء، لدرجة أن المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل صاحب الإصدار الشهير "تاريخ وقواعد الحضارات" كان يخشى في نهاية حياته أن تعود الحرب المذهبية إلى فرنسا (الصراع الكاثوليكي- البروتستانتي)، حيث كان الكاثوليكي يذبح البروتستانتي على الهوية أو العكس، وهو ما استمر قرنين من الزمان.

تقول الحكاية إنه بإعدام لويس السادس عشر تكون الثورة قد تركت كل شيء خلفها، وامتلك المتطرفون البلاد بتكوين ما يعرف بـ"لجنة الأمن العام"، حيث رأوا أن الإرهاب هو الوسيلة الفعالة لتثبيط همم المعارضة، وذلك بإشاعة القلق والاضطراب في صفوفها، وقالوا صراحة "فلنتخذ الإرهاب نظامنا اليومي". وكانت المهمة الأولى للجان الفرعية للأمن العام ملاحظة المشبوهين، وإعطاء الأوامر بالقبض عليهم واعتقالهم، بينما كانت "محكمة الثورة" تنعقد في "قصر العدالة" بباريس لمحاكمة هؤلاء المشبوهين محاكمة مشمولة بالنفاذ العاجل. ويكون مشبوها كل من تلبس بواحدة أو أكثر من الأحوال الآتية: مناهضة الثورة ومبادئها، وتثبيط الهمم عن طريق الخطب والتصريحات والأحاديث في النوادي والمجتمعات العامة. وإذ تستمر الدماء في نزيفها والرؤوس في تدحرجها، يرى المحامي وأحد أهم أعمدة الثورة، "دانتون"، أن حركة الإرهاب أصبحت غير ذات موضوع، وأنه قد آن الأوان للعودة إلى "عهد القوانين والعدل بين الجميع".. العنف كان ضرورة لا مفر منها من أجل كسر شوكة الأعداء وانتزاع السلطة من النظام القديم، لكن الامر الآن يختلف، ولا داعي لاستمرار هذا العنف بعد انتصار الثورة. وقال صراحة: استمرار العنف بعد انتصار الثورة نوع من "القتل". وبذلك يكون دانتون قد وضع نفسه في تعارض تام مع روبسبير (سفاح الثورة) وأعضاء لجنة "الصالح العام".

الغريب فى الأحداث أن دانتون كان عارفا من البداية أن روبسبير يسعى لحصد رأسه، لكنه لم يفكر أبداً في الهرب.. يقولون إن دانتون كان شخصية واقعية نامية منطلقة متدفقة متفاعلة، نابضة بالحياة مفعمة بالحب والعواطف، على العكس من روبسبيير الذي كان يتسم بالجمود والتطرف فى اعتناق اليقين. وكما يصفونه، فهو شخصية مثالية نمطية منعزلة عليلة قاسية، محكومة بالأفكار الجامدة والنصوص المكتوبة، وقد أخذ على نفسه أن يتخلص من كل من كان يعتبرهم "أعداء الثورة"، ولو عبر فيضان لا ينتهى من الدماء. وتزايدت وتيرة العنف والإرهاب الى حد أنه سمي الإرهاب الأكبر الذي استمر 47 يوما؛ انتهت بسقوط روبسبيير الذي حاول حاول أن يبرر أعماله ويضفي على نفسه لقب "عبد الحرية" و"الضحية الحية للجمهورية".

جاء خطؤه القاتل حينما أصدر قانونا يقضي بحرمان أعضاء المؤتمر الوطني من الحصانة؛ في خطوة اعتبرها الكثيرون مقدمة للقبض عليهم وتحويلهم إلى المحاكمة بتهم ملفقة. وبدافع الخوف، قرر أعضاء المؤتمر الإطاحة بروبسبير وأعوانه، من خلال القيام بهجمة عسكرية على مقر البلدية حيث يجتمع روبسبير مع أعوانه، وبالفعل نجحت رصاصات أحدهم في إصابة روبسبير في فكه الأيمن، وتمت محاكمته بتهمة الخيانة العظمى ليُقتاد سريعا إلى المقصلة التي طالما استعملها لقطع رؤوس معارضيه، ويشرب من الكأس التي أذاقها لآلاف الفرنسيين التعساء صبيحة 27 تموز/ يوليو1794، على مرأى الجماهير التي اصطفت لرؤية الصنم الذي هوى وهو يساق إلى حتفه.

خمس جمهوريات مرت بها فرنسا عبر 166 عاما (1792-1958).. كل عام فيها يناطح الآخر بكبريات الأحداث التي عرفها التاريخ البشري. وبقدر ما حملت هذه الأحداث من عبر وعلامات استفادت منها فرنسا وأوروبا، بل وكل شعوب الأرض، إلا أننا سنظل نحمل داخل أعماق نفوسنا غضبا حيا مما فعلته تلك الأمة بديارنا وأوطاننا، احتلالا وتدميرا وتقتيلا، ويكفي "جزائرنا المجاهدة" وما حدث فيها عبر 137 سنة سوداء، لدرجة أن أحد المحاربين القدماء الفرنسيين واسمه "هنري بويو" نشر على مدونته رسالة إلى الرئيس الفرنسي السابق هولاند قال فيها "ستتشرف فرنسا لو بادرت بالاعتراف بجرائم الاستعمار في الجزائر وإدانة مسؤولية بشأن السياسة الاستعمارية". وحث بويو، الذي كان شاهداً على عمليات تعذيب بشعة، رئيس جمهوريته على "التحلي بالشجاعة" من أجل الاعتراف بجرائم فرنسا في الجزائر، وقال إن فرنسا انتهجت "قمعاً مركزاً ضد أية محاولة للثورة ونهبت ثروات الجزائريين"، وقال إن "من ضحايا الجرائم المرتكبة أهالىٍ قتلوا خنقاً بدخان النيران بعد أن جُمعوا في مغارات سُدت عليهم حتى لا يخرج أحد منها حياً، وإبادة قرى بأكملها بقنابل النابالم الحارقة ناهيك عن الاغتصاب والتعذيب". وكان الجيش الفرنسي وقتها يعتمد استراتيجية الحرب الشاملة والإبادة والدمار (كما فعلت وتفعل إسرائيل فى فلسطين) في تعامله مع الشعب الجزائري، لتمكين قادته العسكريين والبرجوازيين الفرنسيين من الاستيطان والسيطرة. وانتهج كل أنواع القهر والإبعاد والتهجير والسجن والتعذيب والتقتيل والنهب، وهدم المؤسسات التعليمية والاقتصادية والاعتقادات والمنشآت والآثار الدينية.

لتحتفل فرنسا بعيدها الوطني، وليسر الفرنسيون عبر دروب الحرية التى توغلوا فيها كما يشاؤون، ولينتجوا من الأفكار الحافلة بالعقل والاهواء ما ينتجون، لكن النوع البشرى كله لن ينسى كل هذه الدماء وكل هذه الجماجم.
0
التعليقات (0)

خبر عاجل