كتاب عربي 21

السلوك بين الحرية الشخصية والالتزام الجماعي

شريف أيمن
1300x600
1300x600

أثارت مسألة ارتباط أحد الدعاة المصريين بممثلة مصرية جدلا في المجتمع المصري. وإن كانت أغلب التوجهات تميل إلى رفض ما جرى، إلا أن البعض اعتبر فعله حرية شخصية ولا يحق لأحد التدخل فيها. وإزاء هذين الرأين ربما يجدر فتح نقاش، غايته الاهتداء لإدراك العلاقة بين الشخصي والجماعي، بعيدا عن التشنّج في طرح الأفكار أو الانتصار للذات في رؤيتها، خاصة مع وجود انقسام بيّن في المجتمع حول كل ما يتصل بالشأن العام على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا سبيل لتقليل هذه الحدة سوى بالنقاش الذي يتلمّس الوصول للصيغة الأقرب للتيار العام في أي مجتمع.

هناك أمور يتم إقرارها بشكل عام ومبدئي، كصيانة الحريات الشخصية، وسموّ التشريع الجماعي على ما عداه من تشريعات، وتأتي التفاصيل والأقضية التي تحدث بشكل يومي لتدق مسمار الخلاف بين العام والخاص والفردي والجماعي، وتظهر بالتبعية اختلاف الأفكار في التوجهات الاجتماعية التي تُعلي من شأن العام مطلقا أو الخاص مطلقا.


لمحاولة فك الالتباس، أن تقوم بتفرقة بين الفعل الذي تقوم به الشخصية العامة، وهو فعل مرتبط بإطار وظيفتها أو تواجدها في الشأن العام، وبين الفعل الذي تَنْبَتُّ صِلَتُه مع وظيفة الشخصية العامة أو تواجدها في الشأن العام

المثال الأخير كان أحد هذه التجليات التي تبرز الخلاف في النظر بين الخاص والعام. وما يمكن طرحه - بشكل أوليّ - لمحاولة فك الالتباس، أن تقوم بتفرقة بين الفعل الذي تقوم به الشخصية العامة، وهو فعل مرتبط بإطار وظيفتها أو تواجدها في الشأن العام، وبين الفعل الذي تَنْبَتُّ صِلَتُه مع وظيفة الشخصية العامة أو تواجدها في الشأن العام، مع الانتباه إلى أن هناك تداخلا محتوما في دائرتي العام والخاص، لكن الاعتبار بما غلب منهما على الآخر.

هذه التفرقة قد تُسهم في إزالة الالتباس، فإذا قام وزير مثلا بتعيين أحد أقاربه - وإن كان أهلا للوظيفة - وقع تحت شبهة المجاملة، وعرّض نفسه لمواضع الشبهات، ولو انتقل الموظف العام من مسكن بسيط لآخر تبدو منه الفخامة، تعرّض للمساءلة حول مكتسباته المالية ومدى مشروعيتها، ولو التقى قاض بأحد أطراف واقعة منظورة أمامه؛ سقطت عدالته أمام الطرف الآخر، وهكذا.

وفي المقابل، إذا قام الموظف العمومي بأي فعل خارج عن نطاق وظيفته ولا يوقعه في شبهة استغلال منصبه، وجب عقد الألسنة عن هذا الفعل، كتزوجه أو إنجابه أو مأكله أو مشربه، وغير ذلك.


الزواج شأن خاص قطعا، لكن اختياره لزوجته يتداخل مع وظيفته كداعية فوقع الاختيار في دائرة العام، وتغلّب على الخاص لطبيعة الاختيار الذي قام به صاحبه

إذا وضعنا زواج الداعية الشاب الأخير على هذا المقياس، وجدنا التداخل المحتوم بين العام والخاص. إذ الزواج شأن خاص قطعا، لكن اختياره لزوجته يتداخل مع وظيفته كداعية فوقع الاختيار في دائرة العام، وتغلّب على الخاص لطبيعة الاختيار الذي قام به صاحبه. إذ لا يُتصوّر من داعية أن يتوجّه اختياره لمن تناقضه في تصوّرها وثقافتها، فألقى نفسه لسهام النقد قاصدا.

يتعيّن في هذا الصدد الإشارة إلى أنه لم يفعل حراما، كما أنه لم يرتكب ما يخالف القانون؛ لأن إرادتهما انعقدت على تحري الحلال، وربما كفتْهم إرادة الحلال في الدنيا حساب الآخرة، لكن الفعل المذكور استوجب النقد واللوم لأنه تعلّق بوظيفته كداعية ديني. وفي مقابل فِعْلِه، كم من عالم امتنع عن نفس السلوك لكنه لم يتورّع عن مداهنة الحاكم وتزيين استبداده وبطشه له، ووقع حسابه عند المجتمع ثم عند الله عسيرا؟ بل إن المجتمع - على الأقل - لن يرحم له فعله، وسيذكره بالسوء كلما تكرر ذكرُه وإن اندرست رمّتُه.

 

الدعاة والعلماء المسلمين تحت منظار دائم في مجتمعاتهم، سواء بغرض الإهانة من الخصوم، أو لشرف الوظيفة التي يقومون بها

هذه الواقعة تؤكد - كغيرها من الوقائع - أن الدعاة والعلماء المسلمين تحت منظار دائم في مجتمعاتهم، سواء بغرض الإهانة من الخصوم، أو لشرف الوظيفة التي يقومون بها، فلا يتصور مريدوهم وقوع الذين يقتدون بهم في أخطاء فجّة تسيء لما يبشّرون به بين الناس، مما يجعل التصدّر للشأن العام من باب الدين أمرا شديد الوطأة على من يَلِجَه، والداخل إلى هذا الباب يُحاسَب من الناس في الدنيا، بخلاف حساب الآخرة الذي يتعرّض له كل الخلائق، ولا يصح ممن يزعم هداية الناس ألا يهتدي لخطورة ما يُقدم عليه، سواء الوظيفة أو الأفعال التي يقوم بها وتتعلق بوظيفته.

 

تشير هذه الوقائع إلى تنامي الحالة الرافضة لكل ما يتعلق بالشأن الديني بين "النشطاء" على وجه التحديد، وتشير إلى الإصرار على إلصاق الدين بسلوكيات الدعاة المنتسبين إليه


كما تشير هذه الوقائع إلى تنامي الحالة الرافضة لكل ما يتعلق بالشأن الديني بين "النشطاء" على وجه التحديد، وتشير إلى الإصرار على إلصاق الدين بسلوكيات الدعاة المنتسبين إليه. والمفارقة أن جزءا منهم ارتبط بالحركة السياسية الإسلامية ثم خرج أو أُخرج منها، وأصبحت تجربته الذاتية هي الحَكَم على الوقائع لا الموضوعية، ثم أصبحت النداءات بعدم احتكار العلماء لفهم الدين، تتحول إلى احتكارهم لفهم الدين، مع وجود إصرار واضح وغير مقبول على تجاوز الشروط العلمية لتفسير النص الديني. ويريد من لا يحسن إدراك المرفوع من المجرور أن يقوم بتفسير النصوص الدينية على جلالة هذه الوظيفة، وإصرار آخر على التركيز على أخطاء المنتسبين للدعوة أو الحركات الإسلامية، مع غضّ الطرف أو التعامي أحيانا عن أي أخطاء أخرى تصدر من تياراتهم أو التيارات القريبة منهم، رغم فداحتها الشديدة.

هذا الرفض كما تتواجد فيه التجارب الذاتية والعداوات الأيديولوجية، تتواجد فيه وتتسبب فيه ممارسات الدعاة والعلماء والحركات الدينية، بل إنهم يتحملّون القسط الأكبر بدخولهم في ما لايحسنونه، بدءا بما يتعلق بحدود وظيفتهم، وانتهاء بالسياسة التي غرق في بحرها الجميع.

التعليقات (0)