كتاب عربي 21

لماذا تكرهون الثورة؟

جمال الجمل
1300x600
1300x600
(1)
الثورة ليست شخصاً ولن تكون، فلا ثورة 19 كانت سعد زغلول، ولا ثورة يوليو كانت عبد الناصر.. الثورة ليست حاكماً ولا حكومة، الثورة ليست شعاراً نكتبه على الجدران ونغنيه في القصائد وكفى.. الثورة فعل اجتماعي مضاد للقهر والفقر والظلم والتخلف، وبالتالي فإنني لست ممن يكرهون الثورات، أو يندمون عليها.. لا أعادي أي ثورة في تاريخنا ولا في تاريخ الشعوب على أي مكان في الأرض، فالثورة فعل تراكمي يعبر عن رفض الناس لظلم ما وخوف ما، كما يعبر عن تطلعهم لأمل ما ومصلحة ما، حتى وإن تلاعبت قوى الظلم بثنائية الرفض والتطلعات وقادت الثورة إلى أهداف نقيضة؛ لأن الثورة تبقى في نظري فعلا شعبيا نبيلا وصحيحا، بينما النظام السياسي الذي يستولي عليها مجرد آلة قوة نحكم عليها بمقدار ولائها أو خيانتها للثورة وأهدافها، لهذا أحيي ثورة يوليو حتى لو لم يتبقى من أهدافها شيء؛ لأننا خرجنا في يناير 2011 لنعيد طرح نفس الأهداف التي فشلت الأنظمة السياسية في تحقيقها.. لكن المزعج أن كثيرين يخلطون بين الثورات وبين الأنظمة السياسية التي صعدت للحكم بحجة تطبيق أهداف الثورة، فيعادون الثورة بحجة النظام السياسي، ويدوسون على الورد بحجة الشوك، ويخلطون بين المبادئ والأشخاص.

(2)
عندما تحدث الثورة يا أحبائي، فإن هذا يعني للجميع شيئا واحدا لا ينبغي النزاع عليه، وهو "أن ثورةً حدثت" ولا بد أن يندلع الصراع بشأن الاتجاه الذي تذهب إليه.. لا ثورة بلا جماهير، لا ثورة بلا دوافع غضب شديدة ضد وضع فاسد ومهترئ.. لا ثورة بلا أمل في جديد يزيح عن عيوننا قبحا طغى، ويزيح عن أنوفنا عفونة أزكمتنا، ويزيح عن ظهورنا تشوه انحناء مذل، ويرفع عنها سياط ظلم وقمع وإفقار وتسلط.. لا ثورة بلا وعي (فردي وجمعي) يحدد لنا ما نريد وما لا نريد.

(3)
"ما لا نريد وما نريد".. هذا هو التعبير الذي يلخص لنا ثنائية "الهدم والبناء" اللازمة لأي ثورة، فلا بد من هدم قلاع الفساد، وإسقاط رموز القهر والانتهازية والتبعية والطفيلية، وإعلاء قيم جديدة، وتطهير المؤسسات العتيقة وتحديثها لتكون قادرة على تنظيف المجتمع وغرس زهور الأمل في الطريق نحو المستقبل.. إذا لم تفعل السلطة ذلك، فهذا يعني أن الثورة لم تدخل القصر، لكنها في كل الأحوال تظل بدرجة ما في الشارع وفي الحقل وفي المصنع. وبرغم القمع والفوبيا، تظل الثورة فاعلة في المساحات البينية، وما القمع والتخويف إلا مؤشرات تثبت لنا حضور الثورة في الساحة وخوف الطغاة منها. الثورة حدثت أيها الأحباء، وما زالت هي القضية الرئيسية في مصر.. أراها واضحة في الصراع الذي يدور عنيفا في كل مكان الآن: على الشاشات، داخل أسوار القصور والمؤسسات الحاكمة، خلف جدران الأجهزة ومقار الأحزاب، على مقاعد المقاهي وداخل البيوت، فوق صفحات فيس بوك، في نقاشات الناس من الفضائيات إلى الميكروباص.

(4)
إذن اتفقنا على هذا، فلا أحب أن يحدثني أحد مستخدما تعبيرات "انقلاب يوليو" و"مؤامرة 25 خساير" و"خديعة 30 سونيا".. لا أحب أن ينشط دعاة الفتنة وكارهو الشعوب لصالح أنظمة يناصرونها.. لا أحب أن يدعي أحدهم الحكمة بأثر رجعي ويقول شامتاً: شوفتوا.. ما قلنالكم.. كانت باينة من أولها.. رجعتونا لحكم العسكر.. السيسي ضحك عليكو.. شربتوا المقلب..!

ششششششششش.... هوسسسسسسسس، اركن على جنب شوية، وكفاية إثارة فتن تفرق بين الضحايا وتمنع تكاتفهم لصناعة المستقبل.

مع احترامي لمشاعر سعادتك وسعادتها من المتلذذين بخوض مباريات الخصام والانقسام، نحن نمضي في طريقنا نحو هدف لن نتنازل عنه، ونعرف أن الطريق مظلم، ومهجور، ومليء بالأوحال والعقارب والذئاب واللصوص، أيضا بالمخاطر والتضحيات، لكننا سنمضي، فلا طريق للمستقبل غير هذا الطريق الصعب.. قد نتعطل أمام عقبة لا تحلها إلا حجارة صماء نسد بها هوة تقطع الطريق. للحجارة فضل تجاوز عقبة، لكنها لن تكون أبدا قائدة الطريق الثوري. قد نحتاج إلى مصباح صغير، وحيلة في مواجهة لص، واستعداء عصابة على أخرى، لكن هذا لا يعني أبدا التسليم للصوص الطريق بأنهم أصحاب حق في تحديد مسارنا ولا اتجاهنا، هذه ظروف اللحظة، ولا بد أن نتجاوزها. هذا طبيعي جدا، فمن المؤكد أن تنظيف الطريق وإنارته وتكاثر الناس فيه، سيكون مضادا لمصالح اللصوص وقطاع الطرق.

(5)
عندما هتف الثوار الجدد دفاعاً عن الثورة التي تعرضت أكثر من مرة للاختطاف: "مكملين"، ورفعوا شعار "الثورة مستمرة"، كانوا بغير استلهان نظري يعيدون صرخة الرفيق "لينين" الذي قال منذ قرن تقريباً إن الطريق إلى الثورة يستوجب مهمة خوض طويلة وخطرة في المستنقعات. ربما لم يقرأ شباب يناير نظريات الثورات ولم يتعرفوا على حتمية ارتباطها بقرينتها الشريرة (الثورة المضادة)، إذن لا يمكن الحديث عن أي ثورة بدون التعرض للثورة المضادة، باعتبارها طرفا حقيقيا واقعيا في الصراع، كتب عنها كثيرا كل من كوندورسيه، وماركوزة، وهابرماس، وريجيه دوبريه، وغالي شكري، كما تحدث عنها برينتون وعمر سليمان وعصام العريان، وصولا إلى ثرثرات مصطفى بكري وتوفيق عكاشة ومرتضى منصور. كتائب الثوار حذرت من الهجمة المرتدة لأباطرة الفساد والتخلف والعفن الذين قامت ضدهم الثورة، وكتائب "آسفين يا ماري أنطوانيت" حذرت من المهالك التي تهدد المجتمع إذا نجح أشرار الثورة "بتوع الأجندات ووجبات كنتاكي.. اللي عاوزين كرامة وحرية ويبقوا أسياد زينا زيهم". على كل حال، أثبت كل من الأحرار والفُجَّار ما صكه كوندورسيه أيام الثورة الفرنسية وما أكده فلاسفة كثيرون بعد ديالكتيك هيجل؛ من أن "كل ثورة تحمل بداخلها ثورة مضادة".

(6)
دعكم من كل هذا الكلام "المكلكع"، المهم أننا عرفنا أن مجتمعنا لم يستيقظ صباح 12 شباط/ فبراير 2011 متطهراً من أوساخه، نقياً من عيوبه. بالعكس، انتبهت القوى المضادة للثورة، ونظمت صفوفها، وشحذت طاقتها وأعدت أسلحتها لصراع انتقامي تقضي من خلاله على فكرة الثورة، وتخرب طريقها، وتشوه صورتها، وتهدم ما تحقق منها في المبنى والمعنى. هذا يعني أن الصراع الدائر عادي ومتوقع، كما يعني أن التفاصيل تتعلق فقط بما تكشفه "مناعة الوعي" من أسماء جنود الثورة المضادة غير المعروفين، فإذا عرفنا أن هذا الاسم أو ذاك ليس "خلية ثورية"، بل مجرد "فيروس" مضاد، فإن الاكتشاف نفسه لا يستدعي اليأس من العلاج، فقط يكفي تصنيف الفيروس كعدو ضار بالثورة، مع ملاحظة أن حالة الفرز بين قوى الثورة والقوى المضادة لها عانت من صعوبات في مرحلة ما بعد كانون الثاني/ يناير، نتيجة تجريف الوعي على مدى عقود طويلة، ونتيجة احتكار وسائل الإعلام والتوجيه، ومحركات قوة التشغيل بما توحي به من مشاعر زائفة لمصلحة المواطن البسيط، فهو قد يتصور أن مصالحه الخاصة تتطابق مع مصالح من يستغلونه، فيقف في صفهم، ويدافع عنهم، سواء بأجر أو بحسن نية، يؤدي في هذه الحالة إلى الجحيم. ومن هنا يتبين لنا أهمية تطوير آليات الكشف والفرز، ووضع المجتمع كله في عملية اختبار مستمرة. تكشف لنا بالتجربة من يقف مع الثورة ومن يقف ضدها، وهذا هو المسار الذي يجب أن تتحرك فيه الثورة بعيدا عن الصدام غير المتكافئ بين القوى. فقد ثبت عبر تجربتين في أقل من ثلاث سنوات أن الثورة ضعيفة ونبيلة، وأنها معرضة للسطو في كل مرة تدخل فيها مواجهة مباشرة مع القوة، وأن الاكتفاء بالصراخ والاستغاثة لا يكفي لكي تكلل طريقها بنجاح، بل هو برؤية أعقل، دليل على ضعفها وعدم قدرتها على المواجهة، أو تفكيرها بالحيلة.

(7)
خلاصة ما أود التنبيه إليه بمناسبة ذكرى ثورة يوليو، وبمناسبة الحالة الثورية المرتبكة التي نعيشها منذ 7 سنوات، أن الثورة عندي "ليست صراعا على السلطة"، بل "صراع مع السلطة"، وهذا الصراع لا ينغلق على هدف إطاحة السلطة واستبدالها بأشخاص مختلفين يمارسون نفس السياسات القديمة، لكن التغيير الثوري يركز على تغيير مفهوم السلطة من "حالة الوصاية الأبوية" إلى "الحالة الوظيفية"، بحيث يتحول الحاكم إلى موظف عام يخضع للحساب ويعمل كخادم للشعب صاحب الحق ومانح السلطات. إن استئثار السلطة بالكلمة والفعل والاتجاه على مدى قرون، هو أكبر انقلاب للقيم في تاريخ البشرية، ونحن نسعى لتصحيح هذا الوضع، وإعادة الحقوق لأصحابها، وفي رأيي أن الخطوة الأهم في هذا التصحيح هي تعبئة الشعب من أجل استرداد حقه، وحقه ليس السلطة، بل منح السلطة لمن يعمل بكد وصدق لتحقيق مطالب الشعب، ونزعها ممن يتصور أنه الآمر الناهي المتحكم في مصالح ومطامح وبرامج الشعب.

(8)
لا توجد ثورة ضد ثورة، فلا تكرهوا الثورات.. إنها صرخاتنا ومطالبنا ومبادئنا وأهدافنا التي نسعى لتحقيقها، بينما يحتال علينا الحكام ليسرقوننا من خلف الشعارات المرفوعة.. معركتنا مع لصوص الثورات وليست مع الثورات.

[email protected]
التعليقات (0)