كتاب عربي 21

خاتمة التهجير السوري وحرب مستأنفة

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600

شكلت عملية إخلاء بلدتي كفريا والفوعة المواليتين للنظام في ريف إدلب، في الثامن عشر من تموز/ يوليو 2018، خاتمة لسلسلة من عمليات التهجير التي طبعت مسارات الثورة السورية، حيث اكتملت مسارات التهجير وإخلاء مناطق من سكانها في سياق الحرب السورية، الأمر الذي ينطوي على تغيير التركيبة السكانية لمناطق عديدة في سوريا، كما هو شأن كافة الحروب الداخلية الطويلة التي تتبع منطق الحروب الجديدة التي تنطوي على أبعاد هوياتية، نظرا للتنوع الإثني العرقي والمذهبي الطائفي والديني.

وقد أنجز الاتفاق برعاية روسية وإيرانية وتركية؛ بين الحكومة وهيئة تحرير الشام (النصرة سابقا). وبموجب الاتفاق، تم إخلاء من بقي من سكان البلدتين والبالغ عددهم نحو سبعة آلاف شخص تقريبا، وإطلاق سراح مقاتلين ومدنيين لدى الجبهة، مقابل إطلاق الحكومة السورية سراح 1500 شخص من السجون الحكومية.

اكتملت مسارات التهجير وإخلاء مناطق من سكانها في سياق الحرب السورية، الأمر الذي ينطوي على تغيير التركيبة السكانية لمناطق عديدة في سوريا، كما هو شأن كافة الحروب الداخلية الطويلة

ثمة غبطة وسعادة بالغة بالاتفاق لدى أنصار منطق الهوية من طرفي النزاع، فالجميع احتفى بالاتفاق كنصر مؤزر، وكانت قوات المعارضة السورية في إطار "جيش الفتح" (بمكوناته الرئيسية: جبهة النصرة وحركة أحرار الشام) قد سيطرت على كامل محافظة إدلب الواقعة بمحاذاة الحدود مع تركيا شمالي البلاد في آذار/ مارس 2015، باستثناء بلدتي كفريا والفوعة، اللتين تقطنهما غالبية من أبناء الطائفة الشيعية، وتحولتا إلى نقطة ارتكاز للمليشيات المرتبطة بإيران وحزب الله اللبناني. وحسب موقع قناة العالم الإيرانية، فإن عدد القتلى الذين سقطوا في البلدتين منذ بداية الحرب في سوريا وحتى حزيران/ يونيو 2016؛ قد وصل إلى 2150 قتيلا و2680 جريحا. وقد خرجت أول دفعة من سكان البلدتين في نيسان/ أبريل 2017، عندما تم التوصل إلى اتفاق ما يعرف بالبلدات الأربع (وهي كفريا والفوعة من جهة ومضايا والزبداني من جهة أخرى)، برعاية تركية وإيرانية وقطرية وروسية. إذ خرج ثمانية آلاف مدني ومقاتل من مضايا والزبداني مقابل ثلاثة آلاف من كفريا والفوعة. وكان عدد سكان فوعة وكفريا قبل الأزمة السورية يقارب نحو 50 ألف نسمة.

إن هندسة التهجير القسري للمعارضة المسلحة نحو محافظة إدلب بصورة خاصة؛ كان سياسة ممنهجة لروسيا منذ تدخلها نهاية أيلول/ سبتمبر 2015، حيث اعتمدت على استراتيجية تستند إلى تكتيكات الهدن وخفض التصعيد التي تجذرت عبر مؤتمرات "أستانة"؛ لتطبيق عمليات العزل والقضم وشرعنة عمليات التهجير القسري في سياق لعبة "المصالحة"، فأصبحت إدلب الملاذ الرئيس للمهجَّرين، وباتت المعقل الأساس لهيئة تحرير الشام. إذ بلغ عدد سكان محافظة إدلب وريف حماة ثلاثة ملايين و650 ألف نسمة، بحسب آخر إحصائية نشرها مكتب التنسيق والدعم التابع لمنسقي الاستجابة بالشمال السوري، في أيار/ مايو 2018، بعد أن أصبحت محافظة إدلب الوجهة الأساسية لمئات آلاف المهجرين قسريا، في حين يبلغ عدد السكان الأصليين في إدلب مليونين و350 ألف نسمة بحسب الإحصائية.

عمليات التهجير القسري التي قام بها النظام قبل التدخل الروسي كانت محدودة ودون استراتيجية واضحة، كما حصل في حمص القديمة 5 أيار/ مايو 2014، لكنها غدت سياسة ممنهجة وثابتة مع روسيا التي برعايتها جرت عمليات التهجير، حيث تصاعدت استراتيجية التهجير بوتيرة متسارعة في مختلف المناطق، كعملية تهجير داريا في 26 آب/ أغسطس 2016، وقدسيا والهامة في 14 تشرين الأول/ أكتوبر 2016، والمعضمية في 19 تشرين الأول/ أكتوبر 2016، وخان الشيح وزاكية في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، والتل في 2 كانون الأول/ ديسمبر 2016، وحلب في 15 كانون الأول/ ديسمبر 2016، ووادي بردى في 29 كانون الثاني/ يناير 2017، وحمص (الوعر) في 18 آذار/ مارس 2017، واتفاق المدن الأربع (الزبداني ومضايا) في 13 نيسان/ أبريل 2017، والغوطة الغربية (بيت جن) في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2017، والغوطة الشرقية في 24 آذار/ مارس 2018، والقلمون الشرقي في 19 نيسان/ أبريل 2018، وجنوب دمشق (ببيلا ويلدا وبيت سحم) في 3 أيار/ مايو 2018، وريف حمص الشمالي في 7 أيار/ مايو 2018، ومحافطة درعا في 15 تموز/ يوليو 2018، وأخيرا القنيطرة في 20 تموز/ يوليو 2018.
مسألة الشمال ومحافظة إدلب التي غدت المعقل الرئيس للمعارضة المسلحة معضلة تتطلب مقاربات مختلفة مع تركيا

مع استعادة قوات النظام السوري برعاية حلفائه من الروس والإيرانيين لسوريا "المفيدة"، فإن مسألة الشمال ومحافظة إدلب التي غدت المعقل الرئيس للمعارضة المسلحة معضلة تتطلب مقاربات مختلفة مع تركيا، فقد خضعت محافظة إدلب لاتفاقات خفض التصعيد التي أنجزت في 15 أيلول/ سبتمبر 2017، في اجتماع أستانة السادس بين روسيا وتركيا وإيران، الذي أسفر عن "تقاسم الأدوار والنفوذ"، حيث قامت قوات النظام بالدخول إلى مناطق جنوب شرق محافظة إدلب شرق سكة الحديد في كانون الثاني/ يناير 2018 واستعادت السيطرة عليها، وقد قامت تركيا بتنفيذ بنود اتفاق أستانة ونشرت عدة نقاط مراقبة عسكرية.

بات واضحا أن أي مغامرة لقوات النظام السوري في إدلب سوف تؤدي إلى كارثة غير مأمونة العواقب، ليس على صعيد المسألة الإنسانية فحسب، بل على صعيد المحافظة على حالة الاستقرار التي عملت روسيا على تحقيقها، ولذلك فإن التوصل إلى صيغة حل في إدلب لا يمكن دون اتفاق روسي- تركي، فالحل العسكري سوف يؤدي إلى حالة انفجار سوف تعيد جاذبية السرديات الجهادية، مع مخاطر الأزمة الإنسانية واللجوء، فقد حذرت الأمم المتحدة، عبر نائب المبعوث الدولي إلى سوريا للشؤون الإنسانية يان إيغلاند، من اندلاع حرب في إدلب؛ لكونها أصبحت أكبر مخيم للنازحين في العالم، كما حذر المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، من انتقال القتال إلى إدلب وتعريض المدنيين إلى خطر كبير، الأمر الذي سوف يشكل خطرا على الأمن القومي التركي. فالرئيس أردوغان بعث يرسائل واضحة بخصوص إدلب ومصيرها.
الحل العسكري سوف يؤدي إلى حالة انفجار سوف تعيد جاذبية السرديات الجهادية، مع مخاطر الأزمة الإنسانية واللجوء،

إن كلفة المخاطرة باقتحام محافظة إدلب ومناطق الشمال الشرقي من طرف قوات النظام وحلفائه باهظة جدا، إذ تتواجد فيها أكثر حركات المعارضة المسلحة راديكالية تجاه نظام الأسد على اختلاف أيديولوجياتها وارتباطاتها. فعقب عمليات فرز واستقطاب على مدى سنوات برزت ثلاث قوى كبرى، وهي: الأولى؛ جبهة النصرة التي تحولت إلى "هيئة تحرير الشام" في 28 كانون الثاني/ يناير 2017، بعد اندماج "جبهة فتح الشام" مع أربع فصائل أخرى ضمن كيان الهيئة وهي: كتائب نور الدين الزنكي، وجبهة أنصار الدين، وجيش السنّة، ولواء الحق، وانضمّت مجموعات منشقّة عن أحرار الشام، ورغم انسحاب الزنكي وبعض أحرار الشام، فإن الهيئة تشكل القوة الرئيسة في إدلب.. والثانية "جبهة تحرير سوريا" التي أعلن عن تأسيسها في 18 شباط/ فبراير 2018، بعد اندماج حركتي "أحرار الشام" و"نور الدين زنكي"، والثالثة "الجبهة الوطنية للتحرير" التي أعلن عن تأسيسها في 28 أيار/ مايو 2018، وتضم 11 فصيلاً، وهي "فيلق الشام" و"جيش إدلب الحر" و"الفرقة الساحلية الأولى" و"الفرقة الساحلية الثانية" و"الفرقة الأولى مشاة" و"الجيش الثاني" و"جيش النخبة" و"جيش النصر" و"لواء شهداء الإسلام في داريا" و"لواء الحرية" و"الفرقة 23".

لا شك في أن هذه القوى هي الأكبر، إذ يبلغ تعداد مقاتلي كل مكون منها قرابة 25 ألف مقاتل حسب رواياتها، ورغم ذلك، فإن ثمة قوى أخرى لم تعلن انضمامها إلى أحد القوى الثلاث، ومنها تنظيم "حراس الدين" الذي يعتبر ممثل تنظيم القاعدة، بعد أن رفضت قياداته إعلان النصرة فك الارتباط بالقاعد، وأعلن عن تأسيسه في 27 شباط/ فبراير 2018 بقيادة أبو همام الشامي، وهو مكون من ائتلاف عدة فصائل وهي: حراس الشام، وسرايا الساحل، وسرية كابول، وجند الشريعة، و"جيش الملاحم"، و"جيش البادية"، و"جيش الساحل. وقد أعلن تنظيم "حراس الدين" وفصيل "أنصار التوحيد"، المنشق عن "جند الأقصى"، اندماجهما في حلف جديد باسم "حلف نصرة الإسلام"، في 29 نيسان/ أبريل 2018.
مسارات التهجير القسري في سوريا بلغت نهايتها، وإذا كانت استراتيجية التهجير التي اتبعتها روسيا في سوريا بدفع المقاتلين وعائلاتهم باتجاه إدلب كانت تهدف بداية للحفاظ على "سوريا المفيدة"

خلاصة القول أن مسارات التهجير القسري في سوريا بلغت نهايتها، وإذا كانت استراتيجية التهجير التي اتبعتها روسيا في سوريا بدفع المقاتلين وعائلاتهم باتجاه إدلب كانت تهدف بداية للحفاظ على "سوريا المفيدة"، وحشر المعارضة السورية المسلحة التي تصر روسيا على وصفها بـ"الإرهابية" في منطقة جغرافية محصورة، فقد تحقق ذلك، لكن هذه العملية كانت تقع في سياق تكتيك ضمن استراتيجية تقود إلى إقناع العالم بوجود "إمارة إرهابية" في النهاية. ورغم أن أمريكا ساهمت في خلق هذه الديناميكية وأكملت المشهد بتصنيف "هيئة تحرير الشام" منظمة إرهابية، لكن الصورة أصبحت أكثر تعقيدا، وباتت خيارات روسيا في إدلب صعبة دون التوصل إلى تفاهمات مع تركيا، فالخيار العسكري في إدلب سوف يؤدي إلى انفجار الشمال السوري، ويعيد الجاذبية الجهادية باتجاه أشد راديكالية.

التعليقات (0)