كتاب عربي 21

تونس بلد بدون سائقين

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600

كان صباح الخميس 26 جويلية يوما عاديا في تونس باستثناء أمر واحد. إذ غادر سائق قطار الضاحية الجنوبية لتونس مقعده وترك القطار يمشي في أقصى سرعته وهو ملآن بالركاب ولولا انقطاع الكهرباء لحدثت كارثة. قطار يسرع بلا راكب وبدون إشعار يحيل على خلو قمرة القيادة من الراكب (يوجد جهاز إنذاري يجب أن يشتغل في تلك الحالة إلا إذا كان معطلا عن قصد) حدث خطير. لكن بدا للكثيرين تعبيرا رمزيا على الوضع العام في البلاد. إذ تبدو تونس منذ فترة ليست بالقصيرة بلادا بدون سائقين.

إذ نحن إزاء حكومة بلا أي سلطة فعلية منذ أشهر بسبب الجدال المفتوح حول رئيس الحكومة والأزمة داخل حزب الحكم "نداء تونس" الذي هو أحد قيادييه وهو ممثله المفترض في السلطة التنفيذية وانقسام كتلته البرلمانية حول التمسك به وأيضا أزمة بين شيخي التوافق بسبب تمسك حركة النهضة ورئيسها على وجه الخصوص برئيس حكومة ينتمي لحليفه. رئيس الإدارة التنفيذية الذي تمت مرمطته علنا من قبل حزبه قبل الآخرين والمتشبث بكل إذلال بموقعه إذ أن ليس لديه أي رصيد في سيرته المبهمة خارج تموقعه في رئاسة الحكومة.

إذ لم يكن من أهم كفاءات البلاد أو من أهم قيادييها السياسيين كل ما في الأمر أن الرئيس السبسي استعمله كبيدق ظرفي لمزيد السيطرة على السلطة من قصر قرطاج. فما لبث هذا الشخص أن تمرد على الجميع وطمع في الترشح إلى الرئاسة في أفق 2019. باختصار الحكومة في حالة تصريف أعمال ونحن إزاء إدارة دولة في حالة عطالة في زمن تواجه فيه أحد أصعب مراحلها الاقتصادية تحت رحمة سلطة الدائنين وعلى رأسهم صندوق النقد الدولي، وحين التفاوض حول اتفاقية شديدة الحساسية مع "الاتحاد الأوروبي" اتفاقية "الاليكا"، وفي وقت بدأ الإرهاب يلملم فيه قواه للعودة لاستهداف القوات الحاملة للسلاح.

المسؤول الأول عن هذا الوضع هو عراب حزب الحكم الرئيس السبسي نفسه الذي كانت منهجيته في الحكم تعطي الأولوية للحزام السياسي الأمني على تقديم رؤية وتنفيذ إصلاحات واضحة واختياراته ضعيفة في خصوص مرشحيه لرئاسة الحكومة. كما أنه أنشأ حزبا ملآنا بالانتهازيين. وكان المشهد المسيء للدستور باستقباله كتلة حزبه في قصر الرئاسة، في حين بالدستور يجب أن تبقى الرئاسة في موقع محايد، والأدهى تم ذلك رمزيا ليلة "عيد الجمهورية"، وضع كل ذلك السبسي في موقع كاريكاتوري وتعبيرا واضحا على أزمة الحكم في البلاد.

في هذا الوضع وحالة التيه التي يعيشها رئيس الحكومة بقي وزراؤه في حالة ضياع يصارع كل واحد منهم من أجل مقعده وتوغلوا في تصريحات إعلامية بهلوانية.

استمعت بالأمس إلى حوار مع وزير الصحة الذي كانت حجته الأساسية للرد على من يقول أن عديد الأدوية المهمة مفقودة من السوق انه ارسل في حالتين سائق سيارته الذي وجد الأدوية. حقيقة مع هذا الائتلاف الحاكم لا يمكن أن تجد دركا آخر في اللاكفاءة والعجز. لكن على كل حال يمكن أن نطمئن أن هناك سائقا يقوم بعمله في الدولة وأن سائق الوزير لم يترك مقعده وترك الوزير يواجه مصيره مثلما حدث مع ركاب قطار الضاحية الجنوبية.

وفي إطار التسابق اليومي من أعضاء الحكومة حول أسوأ تصريح وبعد تصريح وزير الصحة حول قدرة سائقه إيجاد أي دواء... وزير الفلاحة ممثل حزب "ابقى في الحكومة ولو بقيت وحيدا في حزبي الذي له صفر مقاعد ولا يمثل أحدا" يصرعه بالضربة القاضية: تونس تدخل في عهده الثورة الصناعية الرابعة بسبب طائرات الدرون.

فقد اعتبر وزير الفلاحة سمير الطيب خلال مؤتمر صحفي لإمضاء اتفاقية إطلاق أشغال المشروع النموذجي لاستخدام الطائرات دون طيار لرصد وإدارة المشاريع الزراعية بتونس الخميس 26 جويلية 2018 أنّ دعم هذا المشروع من كوريا الجنوبية والبنك الأفريقي للتنمية سيعود بالفائدة على  مستوى الإنتاج الفلاحي بولاية سيدي بوزيد ولكن بالأساس سيمكن تونس من دخول الثورة الصناعية الرابعة بواسطة الفلاحة إثر استعمال مثل الآليات المتطورة.

سؤال بسيط للوزير "اليساري" عوض التهويم في "ثورة صناعية رابعة" ماهي سياستك لحماية ما تبقى من فلاحتنا أمام الحرب القادمة للمنتوجات الأوروبية في اطار اتفاقية الاليكا. هنا يجب أن أتعرض ولو باقتضاب لتقرير جديد صدر هذا الشهر من قبل المؤسسة النمساوية للبحث من أجل التطور والذي قدم مؤشرات إضافية حول التهديد الجدي الذي ينتظر الفلاحة التونسية اذا تم المضي في اتفاقية "الاليكا".

يقول التقرير بوضوح في خلاصاته الرئيسية: "في حالة التحرير الكامل للتعريفة من قبل الاتحاد الأوروبي وتونس ، ستتأثر قطاعات الحبوب والأغذية والمشروبات في تونس بشكل سلبي بسبب ارتفاع المنافسة على الواردات من منتجات الاتحاد الأوروبي، في حين أن القطاعات المختارة فقط في تونس (الزيوت النباتية والخضراوات / الفواكه) تستفيد قليلا. إجمالاً، سوف ينخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في تونس بنسبة 0.52% في حالة التحرير الكامل للتعريفة."

نحن بحاجة لإنقاذ القدرات الراهنة، الدولة الديمقراطية، أمننا المائي والغذائي. وهذا مستحيل في حالة العطالة والاستقالة الراهنة. تونس بحاجة إلى سائقين جدد. ولا يمكن أن يكون هناك سائقين أفضل من البديل الديمقراطي الاجتماعي، وحده سيكونون قادرين بإقناع جزء من الناخبين على دحر "الأغلبية التوافقية" الحالية بين القديم والإسلامي التي بقيت مأزومة ضمن معادلة "الهوية/الحداثة" وتستهلك بلا أي حس نقدي الطروحات الاقتصادية والاجتماعية للمؤسسات المالية الدولية المحصورة بدورها في حلقة مفرغة نيوليبرالية ومسقطة عاجزة عن تقديم بدائل منسجمة مع السياقات المحلية. 

0
التعليقات (0)