قضايا وآراء

مصر والجماعة الوطنية.. المطلب والوسيلة

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
لم أعرف المستشار الراحل وليم سليمان قلادة (1924-1999) معرفة مباشرة، ولم التقه في حياته، لكن ما من مرة التقى فيها العلامة المستشار طارق البشرى - حفظه الله - إلا وينحو حديثنا نحوه بطريقة أو بأخرى ولسبب أو لآخر، ليس فقط لأنه كان صديقا قريبا للحكيم البشري، وليس لأنه كان مفكرا متكاملا صاحب رؤية ومشروع، لكن أيضا لما تركه من أثر كبير (عملي وفكري) على الموضوع الأهم، وطنيا واجتماعيا وسياسيا، وهو "وحدة الجماعة الوطنية".. قرأت له وقرأت عنه وتأثرت كثيرا ببحثه القيم "الأقباط من الذمية إلى المواطنة" الذي صدر في الثمانينيات" ضمن دراسة بعنوان "مصر في القرن 21" صدرت عن مركز الأهرام للترجمة والنشر.

ولعل أهم ما يميز الراحل الكبير أنه لم يكن يحمل أي حساسية كقبطي تجاه "الإسلام"، لا كدين وعقيدة ولا كثقافة وتاريخ.. ونستطيع بأريحيه وفخر أن نضعه على رأس المسيحيين العرب أبناء الحضارة الإسلامية. قدم الرجل في هذه الدراسة رؤية عامة للتاريخ المصري من القرن الأول الميلادي حتى دخول الإسلام، فيقول: قبل الإسلام كان المجتمع المصري مقسوم أفقيا بين حاكمين ومحكومين، بعد دخول الإسلام زاد على التقسيم الأفقي تقسيم رأسي يقوم على التعددية الدينية، وتداخل التقسيمان الديني والسياسي في ما يعرف بالكيان المصري الذي تفاعلت فيه الجغرافيا مع التاريخ مع البشر، وحدث التعايش الوئامي بين أتباع مطلقين: حيث الإيمان يمثل المطلق الذي يستبعد الآخر، ليس من دائرة وجوده ولكن من دائرة إيمانه. وهكذا حدث ما يمكن تسميته بـ"الحياة المشتركة" التي تستند إلى القيم الواحدة والمصير الواحد.. والكلام لا زال للمستشار قلادة: وعلى هذه المقومات والأسس تشكلت حركة المجتمع المصري عبر التاريخ، فقد أخذ التقسيم السياسي يستوعب التقسيم الديني. وبتأثير الحركة العامة للجماعة الوطنية، تجاوز المسلمين والأقباط هذا التقسيم وانطلقوا معا إلى ما يمكن تسميته "فقه المواطنة"، وبدأ المحكومون، مسلمين وأقباطا، حركه مشتركه لاختراق حاجز السلطة والجلوس على كراسي الحكم.

وهكذا أتى الاختراق المشترك لحاجز السلطة كواقعة تاريخية تكتمل بها الحقيقة المصرية، وتعبر بدقة عن مقومات الكيان المصري، وهكذا دخل المسلمون والمسيحيون معا مجال المواطنة والحكم والسياسة. ويستكمل د. قلادة: ثم تأتي لحظة الحق في تاريخ مصر الحديث، حيث صدر دستور 1923 مستوعبا ما سبقه من دستورين صدرا في عهد إسماعيل وتوفيق، مقررا بصفة حاسمة مبدأ المواطنة أساسا للحياة السياسية والدستورية، سواء على مستوى المشاركة أو المساواة، وسادت مصر ما يمكن تسميته بالأخلاق الدستورية.. هذه هي الخلفية العامة التي تحركت فيها الجماعة الوطنية عبر التاريخ.

ثم ينتقل المفكر الراحل إلى أهم نقطه في بحثه، وهي سيناريوهات المستقبل.

السيناريو الأول ينظر إلى المسلمين والأقباط ككيانين متمايزين، وهو سيناريو "إسرائيلي" بامتياز تحدث عنه الإسرائيلي "عوديد عنيون"، والذي أوضح ضرورة تجزئة مصر إقليميا إلى مناطق جغرافية على أساس ديني. ويتضمن ايضا هذا السيناريو رؤية دولية على أساسها يحق للدول الكبرى التدخل في شؤون الدول الصغرى إذا أضرت الأخيرة بمصالح الأقليات بها. وقد كانت هناك محاولات كثيرة لإدراج أقباط مصر ضمن الأقليات في الوطن العربي؛ تحميهم المظلة الدولية، وهو ما رفضه المصريون جميعا منذ إعلان 28 شباط/ فبراير 1922م، بعد رفع الحماية البريطانية عن مصر. أيضا يتضمن هذا السيناريو ما يعرف بـ"الذمية المعدلة"، وهو أن يكون الحديث عن المواطنة والمساواة لفظيا فقط، ولكن في واقع الأمر لا يكون هناك مساواة كاملة.

السيناريو الثاني ينظر إلى المسلمين والأقباط على أنهما كيان واحد، تجمعهما وحدة سياسية تضمها مقومات الكيان المصري، وهو الكيان الذي يناضل منذ زمن بعيد لتحقيق مزيد من التقدم للجماعة ككل بما يؤدى إلى فائدة كل مصر، بل لكل مواطن، وبما يحقق له مزيد من ضمانات ممارسة الحقوق المدنية والسياسية.

ثم يؤكد د. قلادة على أن "حالة الأقباط" لا يمكن فصلها عن حالة المصريين، وهو ما يعنى أهمية العمل على استعادة التجربة المصرية التي حققت خلالها "الجماعة الوطنية" مبدأ المواطنة على أرض الواقع، وهو ما يتفق مع طبيعة مصر السمحة وشعبها الكريم، وتاريخها المشرف وسط عالم يموج بالصراعات..

السيناريو الإسرائيلي يبعث على كثير من القلق العام، خاصة أننا نسمع عن قصه تقسيم مصر دينيا هذه من زمن، وأن إخواننا الأقباط يسعون لتكوين دولة قبطية. نعلم جميعا أن العهد الذي كان ساريا بين إخواننا الأقباط هو أن أمنهم الحقيقي في الاندماج داخل حضن إخوتهم المسلمين، فيتخذون بيوتهم بينهم، وكذا أنشطتهم التجارية والمالية، ويتخذون أسماء مشتركه، ويذوبون (اجتماعيا ووطنيا) داخل الكيان المصري الواحد. وقد كان الحديث بهذه اللغة على أشده أيام حبرية الراحل غبطة البابا كيرلس السادس البابا 116 (1959-1971م).. بابا المصريين كما كان يحلو للجميع تسميته، رغم أن الأمر اختلف كثيرا في حبرية البابا الراحل شنودة الثالث و"مجموعته". أيضا السيناريو الدولي (الذى يتحقق الآن في البطن الرخوة لنا، وأقصد السودان) مقلق، وان كان بدرجة أقل، للظرف الإقليمي وعلاقاته المتشابكة. لكني حقيقة مستاء من السيناريو الثالث (الذمية المعدلة) التي يمثل فيها الجميع على الجميع حالة المساواة الكاملة، وهو الأمر والذي يتطلب جهدا مشتركا من الطرفين المسلمين والأقباط. وأتصور أن القرارات الهامة التي اتخذها غبطة البطريرك تواضروس الثاني تجاه شأن من أهم الشؤون داخل الكرازة المرقسية. أتصور أنها ستنتج واقعا أفضل كثيرا عما كان من قبل خاصة. وقد تبين أن الحادث الأخير (مقتل نيافة الأنبا ابيفانيوس في دير أبو مقار) هو حادث يحمل داخله قصة صراع عميق.. ليس فقط القرارات التي اتخذها غبطة البطريرك كانت محل اهتمام جموع المصريين، ولكن قراره الحاسم بإحالة الحادثة كلها إلى الدولة المصرية ومؤسساتها كان يتسم برؤية بعيدة لما ينبغى أن تكون عليه الجماعة الوطنية.. ومن يبتغ المطلب يبتغ الوسيلة كما يقولون.

لقد مضى الزمن الذي كان البابا يقف فيه موقف الندية والتباعد من الدولة والمجتمع.
التعليقات (1)
خالد
الأحد، 12-08-2018 07:23 م
سيثبت التاريخ ان البابا تواضروس من اكثر البابوات عنصرية وكرها للإسلام وسعيا للانفصالية ......