كتاب عربي 21

الشرخ التونسي سيتسع على الرتق التوافقي

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
مظاهرات سلمية وليست حرب شوارع متقابلة.. هكذا يصور الأمر في إعلام تونسي راض عن نفسه. لكن المعسكرين يعودان للتمايز، ليس في أفق انتخابي قريب فحسب، بل في مسار قطيعة ثقافية لم يتفق طرفاها يوما على الحد الأدنى الوطني الجامع. في السياق، تتراكم مؤشرات على انفصال غاضب بين الحزبين الحاكمين؛ لن يتأخر الإعلان عنه عند تقديم مشروع نص قانون المساواة إلى البرلمان. هذا يؤدي إلى طرح أسئلة عن المستقبل السياسي للبلد إذا تباعد الحزبان الكبيران ووقف أحدهما في معارضة الآخر.

الرئيس كان مجاملا وغير واثق من قوته

اجتنب الرئيس الباجي في خطابه يوم 13 آب/ أغسطس توجيه إهانات مباشرة لشريكه في الحكم، بل فهم البعض أنه يستجديه بلطف خفي لكي لا يعترض بكتلته البرلمانية على تمرير نص المساواة في الميراث، كأن نص الميراث عبء عليه، ويتعرض إلى ضغوطات لتمريره في إيحاء بأنه غير مؤمن به فعلا، رغم طموحه البورقيبي. لكن الرئيس نفسه تحدث بتعال مثير للغضب عن قدرته على منح درجات في سلم المدنية للحزب الإسلامي الذي يتدرج كتلميذ غبي في سلم المدنية.

لقد صار هذا المنح المستعلي المتغطرس مثيرا للغضب فعلا لدى أنصار الحزب الإسلامي، وقد تبنى عليه قطائع، فمانح المدنية ليس مدنيا أكثر منهم، ولا نستبعد أن يعودوا إلى تذكيره بتاريخه الشخصي كوزير داخلية مارس التعذيب. سيكون الأمر مرتبطا بتقسيط القوة في لحظة الانفصال في التوقيت والصيغة، إذ يردد إسلاميون من داخل الحزب أن توافقات تبادل الحماية قد أزفت نهايتها. الأسئلة التي ستطرح الآن: هل حزب النهضة ملك ما يكفي من أسباب القوة لكي لا يحتمي بالنداء ويسير وحده في الحكم أو في المعارضة؟ وهل يملك النداء قدرة النفاذ إلى الحكم الفعلي دون حزب النهضة؟ وهذا يعيدنا إلى البحث عن صورة الحكم دون توافق في الفترة القادمة.
هل حزب النهضة ملك ما يكفي من أسباب القوة لكي لا يحتمي بالنداء ويسير وحده في الحكم أو في المعارضة؟ وهل يملك النداء قدرة النفاذ إلى الحكم الفعلي دون حزب النهضة؟

الخلفية السياسية للمدافعين عن المساواة في الميراث

ثابر الداعون إلى تجاوز النص الديني في مسألة الميراث على مطلبهم منذ عقود، ولم يكن نظام ابن علي، ونظام بورقيبة من قبله، يصغي إليهم، رغم علاقة النظامين بدوائر القرار الغربي، والفرنسي بالتحديد، والتي كانت تنصحهما بذلك دون ضغوط جدية. لقد كان النظامان يقدمان خدمات اقتصادية وسياسية (تتمثل خاصة في استئصال الإسلاميين) تحميهما من الخضوع لإملاء مماثل يعرفان كلفته السياسية في أوساط الشعب المحافظ.

والآن يجد أنصار القانون فرصة ذهبية لفرضه، لمعرفتهم بضعف التحالف المحافظ (نهضة - نداء)، وقد لا تتوفر لهم فرصة مماثلة أبدا، لذلك لعبوا على هذا التناقض (التوافق المغشوش) ليضعوا الرئيس في وضع لا يريحه: مقابل نصرته انتخابيا في الاستحقاق القادم، عليه دفع مشروع النص القانوني إلى البرلمان، وقد فعل في خطاب يوم 13 آب/ أغسطس.

احتفل أنصار النص بذلك، لكن صيغة الفرح كشفت نواياهم السياسية.. لقد تغنوا بنهاية النهضة، فلم يكن النص إلا ذريعة لتوسيع الشرخ بين الحزبين أولا، ثم دفع النهضة إلى معارضة القانون ثانيا، وحشرها في زاوية الحزب الديني المحافظ، وهي صورة تنصل منها الحزب في الخارج قبل الداخل، وعليه الآن تحمل كلفة الدفاع عن نص ديني غير مدني، أو الذهاب إلى تلبس لبوس مدني مخالف لمرجعيته الدينية، ولذلك كلفة عالية في الصندوق القادم.. إنها بداية القطيعة التي ستحدد المشهد السياسي لما بعد 2019.
احتفل أنصار النص بذلك، لكن صيغة الفرح كشفت نواياهم السياسية.. لقد تغنوا بنهاية النهضة، فلم يكن النص إلا ذريعة لتوسيع الشرخ بين الحزبين أولا، ثم دفع النهضة إلى معارضة القانون ثانيا، وحشرها في زاوية الحزب الديني المحافظ

الخوف من الاستفتاء على النص يكشف الحجم الانتخابي

تكلمت رئيس لجبة الحرية والمساواة بكلام يحقر وعي الناس، وأعلنت رفضها للجوء إلى الاستفتاء الشعبي على النص، وهو كلام كاشف لقراءة صحيحة لوعي الناس (العوام) الذين تظاهر كثير منهم يوم 11 آب/ أغسطس، إلى جانب قواعد حزب النهضة، رفضا للنص. هناك رفض شعبي للمساس بحرفية النص القرآني، وهو رفض تجاوز رفض حزب النهضة الملتبس بعد.

رفض الاستفتاء معناه أن يعتمد تمرير النص على لعبة توازنات سياسية في الكواليس وبضغوطات خارجية؛ أكثر من القبول الشعبي بوسائل الديمقراطية. هل يملك أنصار النص القدرة على منع الاستفتاء على النص إذا قرر حزب النهضة معارضته في البرلمان؟ يملك حزب النهضة هنا هامش مناورة جيدا يمكنه أن يوسعه بالاستفتاء، وهذا يخيف الرئيس أكثر من أنصار النص من تيار الحداثة؛ لأنه يعرف قبل غيره أن قواعد حزب النداء (قبل قواعد النهضة) هي قواعد محافظة، ولا تجرؤ على الظهور في الأرياف والمداشر بوجه القاعدة المعادية للتدين الشعبي الذي هو تدينها، بل إن نواب النداء في مجملهم محافظون وعاجزون عن تمرير النص، وهذا سر استجداء الرئيس لحزب النهضة أن لا يعارضه.
يملك حزب النهضة هنا هامش مناورة جيدا يمكنه أن يوسعه بالاستفتاء، وهذا يخيف الرئيس أكثر من أنصار النص من تيار الحداثة؛ لأنه يعرف قبل غيره أن قواعد حزب النداء (قبل قواعد النهضة) هي قواعد محافظة

كما تشكل نقطة الحريات الفردية بالتقرير فخا مخيفا للجميع، فظاهرها محمود، لكن باطنها يتسع بالتأويل إلى الحريات الجنسية، أي لتشريع المثلية الجنسية كفعل أصيل من حرية الفرد في استعمال جسده وحمايتها بالقانون. وتتسع حرية اختيار الزوج (نقطة مشتركة بين الدستور والتقرير أو مشروع القانون) إلى احتمال تشريع الزواج المثلي.

غني عن القول هنا أن تيار الحداثة الذي فرض النقاش حول النص إلى حدود دفعه إلى البرلمان؛ لا يملك أية قوة شعبية تفرضه في الشارع أو في أي برلمان. فإذا عجز الرئيس عن رفض الاستفتاء، فإن النص سيموت في مهده. (أتحدث هنا خاصة عن الفقرة المتعلقة بالمساواة في الميراث فقط؛ لأن كثيرا مما في التقرير لا يشكل حرجا على أحد، بل هو محل قبول واسع).
الحداثة الذي فرض النقاش حول النص إلى حدود دفعه إلى البرلمان؛ لا يملك أية قوة شعبية تفرضه في الشارع أو في أي برلمان

حكومة الشاهد تقف على الحياد حتى الآن.. لكن إلى متى؟

حتى الآن يجري النقاش في مستوى ثقافي وقانوني وسياسي. وقد نأى يوسف الشاهد بنفسه وبحكومته المختلطة عن النقاش، وهذا هو الأمر الطبيعي والمنتظر من حكومة (سلطة تنفيذية) مكلفة بإدارة الشأن الاقتصادي قبل الثقافي. لكن النقاش سيقود عملية الاستقطاب الانتخابي في المرحلة القادمة، فأين سيقف الشاهد الساعي إلى ترميم حزب النداء ليخوض به الانتخابات؟

سيكون عليه تحمل كلفة موقف فكري مع النص أو ضده، فإذا راهن على تبني النص واستنصر بتياره، فسيعلن قطيعة مع قاعدة النداء المحافظة، والتي تسخر الآن من الرئيس، ويدفعها بالتالي إلى التصويت ضده (واحتمال أن تصوت للنهضة إذا عارضت النص)، أما إذا عارض الشاهد النص بدوره، وهو أضعف من أن يتحمل القطيعة مع بيئته الثقافية الحاضنة وأنصاره في الخارج، فسينتهي حليفا ضعيفا للنهضة التي ستخرج قوية من نقاش لم تختره ولم تفرضه، لكنها ناورت لقطف نتيجة ضعف أنصاره في الشارع.

نهاية التوافقات

لم يعد الصمت ممكنا، ولا بد من إعلان موقف وتحمل كلفته لدى الجميع مع النص أو ضده. الأمر لم يعد متعلقا بالتوافق حول مسألة تقنية في وزارة تقنية يمكن فيها تأجيل القطيعة، بل بنمط المجتمع وعلاقته بمقدساته أو مشتركاته العقدية.
لم يعد الصمت ممكنا، ولا بد من إعلان موقف وتحمل كلفته لدى الجميع مع النص أو ضده

هل كان يمكن تأجيل النقاش في هذه المسائل لحين تجاوز المرحلة الانتقالية بدون قطائع مؤلمة ووضع المشاكل الاقتصادية في طليعة اهتمامات الجميع؟ كان هذا ممكنا تحت غطاء وحدة وطنية ضد الفقر والتهميش (الدافع الحقيقي للثورة) لكن التأجيل لا يعني الإلغاء. إنه بمثابة دس المزبلة تحت الكنبة والتظاهر بأن البيت نظيف، لذلك فإن النقاش الآن أكثر جدوى، ليعرف كل أناس مشربهم.

على الشعب الكريم المتهم في وعيه أن يحسم النقاش بعيدا عن انتظار الحلول من الأحزاب السياسية والنخب. هناك حتى حد الآن نوع من الانتظارية الكسولة، إذ يكتفي بعض الشعب بتكفير اللجنة واتهامها بإخراج البلد من دينه، بينما يهز جزء آخر كتفيه ويرى نفسه غير معني بالنقاش، وهو نفس التيار الذي يريد من حزب النهضة أن يدافع عنه، لكنه في نفس الوقت لا يريد لحزب النهضة أن يكون حزبا دينيا. هذه الانتظارية تقف أمام لحظة فارقة، وعليها الحسم رغم انشغالها غالبا بتدبير الهم المعيشي اليومي.
على الذين يقولون في كل منبر أن الدين ملك الشعب وأساس هويته؛ أن يثبتوا فعلا أنه كذلك، أو أن يتخلوا عن موقف جاهز وغير واع بثقله الفعلي

على الذين يقولون في كل منبر أن الدين ملك الشعب وأساس هويته؛ أن يثبتوا فعلا أنه كذلك، أو أن يتخلوا عن موقف جاهز وغير واع بثقله الفعلي، وأن النخب السياسية والأحزاب ليس مكلفة بعقائد الناس، فلا هي مكلفة بحمايتها ولا لها الحق في إلغائها أو تبديل جزء منها. إن هذا هو الجانب الأكثر فائدة في النقاش الجاري، لذلك فإن تأجيله غير مجد في أي مرحلة من مراحل تطور البلد.

لسنا في وضع من يحدد للناس ما يفعلون، ولكن جرّ الأمر إلى الاستفتاء الشعبي عبر محاصرة البرلمان وجره إلى إعلان الاستفتاء؛ يشكل مخرجا يرفع الحرج عن الجميع، ويحمّل الجميع مسؤولياته ويحدد حجمه، بعيدا عن لغة التكفير المتبادل.
سيظل الأمر لعبة سياسية بيد النخب، مثلما بقى أمر التنمية لعبة بيديها، فلم تنتج التنمية ولا أخرجت البلد من ورطة اقتصادية قد تعصف به وتحوله إلى دولة فاشلة

في خلاف ذلك، سيظل الأمر لعبة سياسية بيد النخب، مثلما بقى أمر التنمية لعبة بيديها، فلم تنتج التنمية ولا أخرجت البلد من ورطة اقتصادية قد تعصف به وتحوله إلى دولة فاشلة.

حتى الآن لم ينتج النقاش عنفا غير بعض اللفظ المتطرف، وقد لا يصل العنف أبدا، لكن نتيجة سياسية واضحة تجلت الآن: لم يعد بين النداء والنهضة أسباب كافية لمواصلة الحكم معا، بقطع النظر عن توزيع الحقائب الوزارية. وهذه نتيجة أولى للتقرير؛ سعى إليها وحققها من كتب التقرير بكل حرص.
التعليقات (0)