قضايا وآراء

ما الجديد في استهداف الليرة التركية؟

1300x600
1300x600

استهداف الليرة التركية ليس بالأمر الجديد؛ غير أن اللافت في هذه الجولة ارتباطها باستهداف مباشر ومكشوف من الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ ارتبط الانخفاض بإعلان الولايات المتحدة الأمريكية عن وجبة عقوبات مباشرة بهدف إجبار تركيا على إطلاق سراح " القس أندور" المتهم بالتجسس. 

 

الليرة التركية على مدى العام الماضي لم تتوقف عن مقاومة الضغوط الخفية، التي تم ربطها تارة بالمديونية وتارة أخرى بالأوضاع السياسية في البلاد التي سبقت الانتخابات البرلمانية والرئاسية؛ غير أن الليرة أثبتت قوتها بمقاومة مستمرة وفاعلة للاقتصاد التركي عبر عنها بحقائق رقمية؛ فالاقتصاد التركي سجل في الربع الأخير من العام 2017 ؛ نموا قدر بـ 11% لينعكس إيجابا مؤشر النمو للعام 2017 الذي لامس حاجز الـ 7%؛ فالاقتصاد التركي يوصف بأنه حقيقي يعبر عنه بالقدرة على الإنتاج والتصدير.

 

مقاومة الاقتصاد التركي للضغوط المباشرة جاءت هذه المرة في أعقاب هبوط سريع لليرة أثار مخاوف حقيقية ليتبعه تعاف أعاد الثقة بالاقتصاد التركي؛ مقاومة الليرة التركية للضغوط الأمريكية عبر عن قوة الاقتصاد التركي وصلابة المؤسسة السياسية؛ ولم تقتصر على وقف التدهور في سعر الليرة، بل انتقلت إلى التعافي التدريجي؛ لتكشف حقائق مغيبة عن الاقتصاد التركي ابرزها أن الاقتصاد التركي اقتصاد منتج ومتنوع؛ وتركيا شبه مكتفية زراعيا وغذائيا، وتملك قطاعا صناعيا وسياحيا وخدميا منتجا وفعالا؛ وشركاء تجاريين استراتيجيين في مجال الطاقة على رأسهم روسيا وإيران وأذربيجان وقطر؛ مرتبطة بأسواق كبرى في أوروبا والصين وروسيا وإفريقيا والمنطقة العربية وجنوب شرق آسيا. 

 

يضاف إلى هذه الحقائق أن الاقتصاد التركي مرتبط بمنظومة الاقتصاد الدولية؛ إذ تعد تركيا واحدة من دول مجموعة العشرين المؤثرة في النظام الاقتصادي؛ فسرعان ما انعكس انهيار الليرة التركية على الأسواق المالية الأمريكية والأوروبية، مثيرة قدرا من الذعر في هذه الأسواق، التي باتت حساسة للتغيرات الكبرى وإمكانية انتقال العدوى إليها.

 

فتركيا تملك شبكة معقدة من الارتباطات بأسواق المال الأمريكية، مكنتها من الاستفادة من سياسة (التسييل الكمي) وانخفاض سعر الفائدة الأمريكية في عهد إدارة أوباما لتمول من خلالها مشاريع عملاقة كالمطارات والأنفاق والطرق والسكك الحديدة؛ محولة القروض منخفضة الفائدة إلى أصول وخدمات بعوائد عالية؛ شبكة معقدة أثارت قلق أسواق المال الأمريكية، التي أثار فزعها إمكانية تخلف تركيا عن سداد الديون نتيجة العقوبات الأمريكية، فانخفضت بنسب قاربت 2- و3% مخلقة ارتدادات غير محمودة لسياسة ترمب اليمينية المتهورة تجاه تركيا.

 

ذعر انتقل إلى القارة الأوربية فهاجس انتقال الأزمة إلى أوروبا، دفعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى إطلاق تصريحات داعمة بهدف تعزيز الثقة بالاقتصاد التركي؛ فألمانيا لا تريد أن تخوض التجربة ذاتها التي خاضتها بعيد انهيار البنوك الأمريكية وعلى رأسها ليمان برذرز؛ فضلا عن وجود 7 آلالف شركة ألمانية تعمل في تركيا بحسب قول وزير الاقتصاد الألماني بيتر ألتماير، الذي عقب على العقوبات الأمريكية بالقول، "إن الرسوم التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الواردات التركية والصينية، يمكنها أن تضر بالاقتصاد العالمي"، في حين أن الناطق باسم الحكومة الألمانية ستيفن سيبرت قال، إن استقرار الاقتصاد التركي يصب في صالح ألمانيا، وأن بلاده تتابع الوضع في تركيا عن قرب؛ لتختم ميركل هذه الهواجس بالقول، إن عدم استقرار الاقتصاد التركي لن يفيد أحد، مبينة أنها ترغب في رؤية الاقتصاد التركي مزدهرا.

 

لم تقتصر تداعيات أزمة الليرة على الجانب الاقتصادي؛ فالمعركة المندلعة أحيت الروح الوطنية والقومية لدى الأتراك، وولدت نزعة للتحدي وعبأت الشعب التركي خلف حكومته؛  في حين أظهرت العديد من الشعوب العربية والإسلامية تعاطفا كبيرا بلغ حد المبادرة الفردية لشراء الليرة التركية، ترافقت مع حملات لدعم شراء السلع التركية في لبنان والعراق وقطر والكويت وباكستان.

 

التعاطف مع تركيا كان واضحا، وهنا تكمن العبرة الأساسية في هذه المعركة؛ إذ تحولت من معركة اقتصادية إلى معركة إعلامية وسياسية؛ عمدت من خلالها تركيا إلى أحداث أكبر قدر من الإرباك السياسي والإعلامي للولايات المتحدة الأمريكية، التي وجدت صعوبة في الدفاع عن خطواتها العدوانية المكشوفة تجاه تركيا، وباتت تخشى من ارتداداته السياسية والاقتصادية.

 

فالمعركة الاقتصادية أشعلت معركة إعلامية وسياسية ودبلوماسية لا تقل في أهميتها ونتائجها عن المعركة الاقتصادية؛ معركة تهدد مكانة الولايات المتحدة تضعف ثقة حلفائها في سياساتها؛ وتزيد من هشاشة علاقاتها بالقوى الدولية المستاءة من سلوك الإدارة الأمريكية الحالي؛ معركة تجد فيها تركيا فرصة لتحقيق مكاسب سياسية في الساحة المحلية والإقليمية والدولية، كقوة تمكنت من تحدي الإرادة الأمريكية؛ معركة توفر لأنقرة مزيدا من المبررات لإعادة هيكلة اقتصادها وعلاقاتها بالولايات المتحدة بشكل أكثر يسرا وسهولة.

 

ختاما: مع انكشاف غبار المعركة الاقتصادية والسياسية تكشفت قوة كامنة لتركيا؛ في مقابل انكشاف اقتصادي وسياسي أمريكي ليس فقط أمام حلفائها، بل وأمام خصومها الذين وجدوا في الأزمة فرصة لزعزعة تحالفات أمريكا واستراتيجيتها الاقتصادية والسياسية؛ فالتهور والسياسات العدوانية تهدد واشنطن بالمزيد من العزلة، وتفتح الباب لدول وقوى إقليمية للتمرد على الإرادة الأمريكية وقيادتها العالمية. 

التعليقات (0)