قضايا وآراء

الهجرة النبوية ودرس المواطنة والوطنية

عصام تليمة
1300x600
1300x600

الهجرة النبوية حدث مملوء بالدروس والعبر التي لا تنتهي، ونجد كثيرا من أحداثها ـ وأحداث السيرة النبوية بشكل عام ـ يتشابه بحد كبير مع ما يعيشه المسلم في حياته في كل زمان ومكان، ولذا كانت عالمية الرسالة المحمدية، وشمولها، من حيث الاقتداء والتأسي. والمرء في حياتنا المعاصرة يعيش مشتتا بين وطنه الذي لاقى منه العنت والتهجير والمطاردة، والأحكام الجائرة، كمصر، وسوريا، وكثير من بلدان ما سمي بالربيع العربي، والذي تحول لكابوس عربي.

 

أحبّ أرض الله

لقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من وطنه ومسقط رأسه، مكة، وودعها باكيا حزينا على مغادرتها، مخاطبا لها بقوله: والله إنك لأحب أرض الله إلى الله، وأحب أرض الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت. وظل حب وطنه في قلبه، لا يتعارض ذلك مع إيمانه بربه، نافيا التعارض الذي يتوهمه البعض بين حب الوطن والدين، ما دامت الوطنية لا تؤدي بصاحبها إلى عصبية بغيضة، وإلى الوقوف مع وطنه في الحق والباطل.

وعندما غادر مكة إلى المدينة، لم يصب اللعنات على وطنه، وهو ما يقع فيه كثير ممن يترك وطنه لظلم النظام الحاكم فيه، ويرسخ في ذهن أبنائه الصغار بغض هذا الوطن، متناسيا الفرق الكبير بين الوطن والنظام الذي يحكمه، فمهما كرهنا، وسخطنا، يكون على الظالم، لا على وطننا الذي كلنا أمل في الله عز وجل أن نعود إليه. وقد ظل حنين النبي صلى الله عليه وسلم وارتباطه بوطنه، يتضح في صلاته، وفي حياته، فقلبه يتمنى أن تتحول القبلة من بيت المقدس للكعبة، وعندما يقول أحد الصحابة شعرا يذكره بمكة، يقول: يا أُصيل دع القلوب تقر. أي لا تحرك القلوب بالشجن والحنين للوطن.

فلسفة الاندماج

 
وعندما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، لم ينظر لهذا الوطن الجديد الثاني، أنه مجرد استراحة، أو تعامل بمنطق الضيف كما يتعامل كثير من المهاجرين، يظل في بلاد أوروبية أو في تركيا مثلا، يظل سنوات على تخطيط أنه عائد إلى بلده بعد شهرين أو ثلاثة، ويعيش سنوات لا يتعلم لغة البلد، ولا يعرف عاداتها وتقاليدها، ويعيش فيها كأنه عضو في جسد غريب عنه، حتى وإن حمل جنسية البلد يظل غريبا عنها، ولا يندمج في مجتمعها، محققا المعادلة المهمة بين تمسكه بدينه، واندماجه في مجتمعه: (تمسك بلا انغلاق، واندماج بلا ذوبان). 

فقد عاش المهاجرون في المدينة المنورة، بنوا البيوت، واندمجوا في المجتمع، وآخى صلى الله عليه وسلم بينهم والأنصار، وتزوج عدد منهم من الأنصاريات، وعندما فتح الله عليهم مكة، لم يعودوا إليها، بل بقي معظمهم في المدينة، وظلت المدينة مركز الحكم في الدولة النبوية، ومركز الحكم في الخلافة الراشدة، وعاش بقية حياته فيها، متذكرا الود والوفاء لمن آووه ونصروه، وعندما جاءت غزوة حنين، وتحدث بعض الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد قومه فوزع عليهم الأموال والغنائم ونسينا، فخطب فيهم مذكرا بفضلهم، قائلا: أو ما ترضون أن يعود الناس بالدرهم والدينار، وتعودون أنتم برسول الله؟ فقالوا: رضينا بالله ورسوله.

المواطنة الصالحة

سنلاحظ في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة، من خلال سلوكه، وسلوك أصحابه: أنهم ما صبوا اللعنات على وطنهم الذي غادروه، بل كان أحب شيء إلى قلبه أن يطلبوا الهدنة معه، وأن يغمد سيفه ويغمدوا سيوفهم، كما في صلح الحديبية. وأنه فرق بين كفار مكة القائمين على الحرم والحكم، وبين مكة وطنه ومسقط رأسه. وعندما هاجر للمدينة وأصحابه، تاجروا وبنوا وعمروا فيها دون تفرقة بين المدينة (الوطن الجديد)، ومكة (وطنهم الأصلي). 

وكذلك في هجرتهم للحبشة، نلاحظ رغم أنها دولة كفر، لكنها آوتهم وحمتهم من بطش كفار مكة، لم نر حادثا واحدا ضد مصلحة البلد، أو استخدام القوة للتغيير، كما يحدث من بعض الجهلة في بلاد الغرب الآن، فهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته سواء للحبشة أم للمدينة، كانت نموذجا ودرسا عمليا يجمع بين المواطنة الصالحة، والوطنية المؤمنة.

[email protected]

التعليقات (0)

خبر عاجل