كتاب عربي 21

المعضلة "الجهادية" ما بعد "سوتشي"

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600
رغم توصل الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين في سوتشي لاتفاق حول محافظة إدلب، يبعد عنها شبح حرب كارثية كانت وشيكة بعد فشل القمة الثلاثية في طهران بين أردوغان وبوتين وروحاني، فإن شبح الحرب لا يزال ماثلا، لكن الحرب لن تكون على نسق التوقعات ما قبل اتفاق سوتشي. فقد اختزلت المشكلة في سوريا عموما وإدلب خصوصا بـ"الجهاديين"، وهو مصطلح بات يكافئ مصطلح "الإرهابيين"، ليس لدى الفاعلين من الدول فحسب؛ بل لدى الفاعلين من غير الدول من فصائل المعارضة السورية السياسية والمسلحة. وبهذا، فإن المعضلة الرئيسية ما بعد اتفاق سوتشي جرى تلخيصها بالحركات الجهادية، وفي مقدمتها سلالات القاعدة وجبهة النصرة.

في هذا السياق، تؤسس سوتشي لحرب بالغة الوضوح مع الحركات الجهادية التي تعرّف كمنظمات إرهابية، وهو اتفاق يتماهى مع مع اختزال المسألة السورية بـ"الإرهاب"، وببدو أن صيغة اتفاق سوتشي تحقق أهداف جميع الأطراف بطرائق عدة، فلا اتفاق يلبي رغبة تركيا بمنع قيام كيان كردي من خلال إنشاء منطقة منزوعة السلاح بعمق 15- 20 كم تفصل بين الجيش السوري والجماعات المسلحة المصنفة كحركات إرهابية في إدلب، وهي تلبي مطالب روسيا والنظام باستعادة إدلب بأقل الكلف من خلال تكفل تركيا بنزع الأسلحة الثقيلة من يد الجماعات "الإرهابية" في إدلب وريفها، والقضاء على هيئة "تحرير الشام - النصرة سابقا" وأخواتها.

تدرك روسيا وتركيا أن هيئة تحرير الشام والجماعات الجهادية الأخرى لن تسلم سلاحها مع حلول منتصف شهر تشرين الأول/ أكتوبر القادم، كمهلة نهائية كما نص اتفاق سوتشي، لكنها مهلة تسمح بممارسة مزيد من الضغوطات لتفكيك أكبر قدر ممكن من قدرة الحركات الجهادية (الإرهابية)، فهي لا تعدو عن كونها  إجراءات "مرحلية" سوف تنتهي بالمواجهة العسكرية. وقد وصف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف اتفاق الجيشين التركي والروسي على حدود المنطقة المنزوعة السلاح في إدلب، تنفيذاً لاتفاق سوتشي بـ"المرحلي"، وأكد أن الاتفاق "موجه قبل كل شيء لاجتثاث التهديد الإرهابي، وهو دون شك خطوة مرحلية لأنه يتم إنشاء منطقة منزوعة السلاح فقط لا غير". وشدد لافروف على ضرورة انسحاب جبهة النصرة من المنطقة منزوعة السلاح، فضلاً عن تجريدها من الأسلحة الثقيلة، بحلول منتصف تشرين الأول/ أكتوبر القادم.

تقوم دينامية اتفاق سوتشي على نزع الذرائع والمبررات الأمريكية والأوروبية بتوجيه ضربة للنظام السوري بحجة استخدام السلاح الكيماوي، حيث تغدو الحرب المقبلة في إدلب حربا على "الإرهاب"، الأمر الذي فهمته إسرائيل فعمدت إلى محاولة خلط الأوراق، فغداة الإعلان عن التوصل إلى هذا الاتفاق شنت طائرات إسرائيلية غارات على مواقع للنظام. وأعلنت موسكو أن طائرة تابعة لها أسقطت ليل الاثنين/الثلاثاء في 18 أيلول/ سبتمبر، في غرب سوريا، وهي خطوة تؤكد على مدى تعقيدات المشهد السوري، وسط الحديث عن مسعى إسرائيلي لتخريب الاتفاق.

نجحت تركيا وروسيا عبر اتفاق سوتشي في معركة النفوذ من خلال التموضع في ثنايا الإجماع الدولي على "حرب الإرهاب"، فلم تعد الحرب المنتظرة تخاض ضد المدنيين في إدلب ولا فضائل المعارضة المسلحة الموصوفة بالمعتدلة، والتي من المنتظر أن تشارك في قتال الحركات الجهادية الموصوفة بالإرهاب، وهو أمر لا يعدو عن كونه "مرحليا" وتكتيكيا، وتلاعب بالمصطلحات والمفاهيم وإعادة تعريف مسرح العمليات. فكما قالت صحيفة نيزافييسمايا غازيتا الروسية، فإن "اتفاق سوتشي ليس نهائياً، وستنطلق العملية العسكرية في إدلب للقضاء على الإرهابيين في المستقبل القريب، بعد تليين دفاعاتهم وانتظار انقلابهم على بعض، وتسليمهم للسلاح الثقيل".

وفي إطار الإسراع في تفكيك الحالة الجهادية (الإرهابية) في سوريا، كشفت صحيفة "يني شفق" التركية السبت الماضي، عن إعداد المخابرات التركية بالتعاون مع "عناصر محلية" قائمة بـ400 شخص في إدلب ثبت ضلوعهم بأعمال "إرهابية" بهدف اعتقالهم. وذكرت أن أجندة تركيا في إدلب تتضمن مبادرات ستضمن مغادرة العناصر الإرهابية الأجنبية للمنطقة"، بالإضافة إلى رفع وتيرة ونسق المظاهرات في الشمال السوري وإدلب خصوصا، والتي ترفع شعارات "إسقاط النظام"، وتحمل الفصائل الجهادية مسؤولية تخريب الثورة ووصمها بـ"الإرهاب"، وهي دينامية عملية للفصل بين ما تبقى من حاضنة في إدلب للجهاديين.

ما بعد سوتشي يعني الحديث عن حرب مبررة في إدلب سياسيا وأخلاقيا على الصعيد الدولي والإقليمي والمحلي تحت شعار "حرب الإهاب"، وبذلك تختفي نظريا تكتيكات الأرض المحروقة والخسائر الإنسانية، وتحضر نظرية "الدروع البشرية"، إذ تعتبر مسألة "حرب الإرهاب" وطرد "الإرهابيين" من إدلب نقطة إجماع لا جدال فيها بين كافة الأطراف الدولية والإقليمية، وقد حسم الجميع موقفه من هيئة تحرير الشام - النصرة سابقا باعتبارها منظمة إرهابية، حيث أعلنت تركيا رسمياً عن تصنيف "هيئة تحرير الشام" منظمة "إرهابية" في 31 آب/ أغسطس 2018. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد  أدرجتها على قائمة الإرهاب في 31 أيار/ مايو 2018، الأمر الذي شكل نقطة اتفاق في قمة سوتشي.

هكذا، فإن المعركة المرتقبة في إدلب أخذت منحى مختلفا، بكلفة أقل وإخراج مغاير، لكنها واقعة لا محالة ضد الجماعات الجهادية، وفي مقدمتها هيئة تحرير الشام - النصرة سابقا، والمقاتلون "الصينيون" من "الحزب الإسلامي التركستاني" والأذريون والطاجيك، والفصائل القريبة من القاعدة من تنظيم "حراس الدين"، مع انتهاء مهلة منتصف الشهر القادم لتركيا لتفكيك هذه الحركات والقضاء عليها، وهي مهمة مستحيلة، سوف تستكمل روسيا عملياتها مع قوات النظام والمليشيات الإيرانية بصورة متدرجة، حيث تشكل عملية استعادة السيطرة على ريف اللاذقية وريف حماة الشمالي الغربي، وفتح طريق حلب- اللاذقية وتأمين ريفي حماة الشمالي الغربي واللاذقية الشمالي الشرقي؛ مفتاحا سيفرض على قوات النظام متابعة تقدمه والسيطرة على كامل منطقة جسر الشغور وصولا إلى مدينة أريحا، حيث تعتبر مدينة جسر الشغور صلة الوصل بين الشمال السوري والساحل.

خلاضة القول أن اتفاق سوتشي حقق مكاسب لتركيا وروسيا بصورة لا لبس فيها في معركة النفوذ مع أمريكا والدول الأوروبية، لكنه لم يؤد إلى إنهاء خطر معركة إدلب، وإنما عمل على التأسيس لحرب أقل كلفة سياسيا وماديا وبشريا، ولا يجرؤ أحد على التصريح بمناهضتها دوليا وإقليميا ومحليا، تحت شعار "حرب الإرهاب"، حيث تختزل معضلة إدلب خصوصا والشمال عموما بالحركات الجهادية المصنفة كمنظمات إرهابية. ويبقى السؤال حول سيناريوهات المعركة المقبلة مفتوحا، ورهنا بحسابات معقدة لهذه الحركات، وقدرتها على التعامل مع التصعيد المتدرج، وخيارات الصفقة أو المواجهة.
التعليقات (0)