كتاب عربي 21

غربة الشريعة بين أهلها

شريف أيمن
1300x600
1300x600
كانت الثورة المصرية مطلع 2011 مؤذنة بعملية تغيير محدودة على المستوى السياسي، ورغم استقرار النظام السياسي - بشكل عام - بعد الإطاحة بالرئيس الأسبق مبارك، فقد أحدثت الثورة تغيّرات ثقافية واضحة في قطاعات من المجتمع. وتجلّت تلك التغيرات في الاستقطاب السياسي بين الإسلاميين والعلمانيين، وكانت مرتكزات خطاب كل منهم محورا للنقاش، فطُرحت مداولات حول مسائل كان طرحها غير وارد، كغطاء الرأس للإناث والميراث ووضع المرأة في المجتمع، وغير ذلك من قضايا حازت المرأة تحديدا قسطا كبيرا منها.

والنقاش بطبيعته محمود، واستقرار أمور الدين في النفوس يحتاج لمباحثة، إلا أن ما جرى عقب الثورة جافى المباحثة واستقصى المنازعة، وجافى الانضباط العلمي، كما جافى الآداب وتحرّى البذاءات، فضلا عن ضعف الممارسات السياسية للمنتسبين للتيار السياسي الإسلامي، وضعف أداء الدعاة عموما، فنتج عن ذلك تشتت في الأفهام، واستشراء التجهيل الذي رعت بعضَه جهاتٌ رسمية في إطار معركتها مع التيار الأهلي القوي عقب الثورة.

ولما كان تأخر أحوال الأمة عامّاً على الصُّعُد المختلفة، تأخر بالضرورة حال العاملين في المجال الديني وعْظاً وإفتاءً، فأصبح بعض المنتسبين لطلب العلم يظنون أنفسهم حازوا علوم الدنيا، وهم لا زالوا في بواكير الطلب، فتصدّروا، ولمّا استووا على سوقهم، ومنهم من تعامل مع الشريعة باعتبارها وظيفة، فيتحدث دون أن يتثبّت من قوله، ويفتي دون دراية بأحوال الفتوى، والمفتي، والمستفتي، إذ هو مكلّف بإمامة مسجد أو عمل بدار الإفتاء، فصارت مسألة الشريعة لديه مسألة وظيفة يراعي مقتضياتها وسبل البقاء فيها بدلا من مراعاة مقتضى الشريعة، ومنهم من تعامل مع الشريعة باعتبارها مصدرا للثراء والوجاهة، وكل هؤلاء لا يمكن وصفهم بخيانة الأمانة التي على أعناقهم بشكل مطلق، بل هي الأوصاف الغالبة على حالهم؛ إذ كلنا تنازعنا أنفسنا للدنيا، والكيِّس من غلب هوى نفسه. ومن المنتسبين لطلب العلم من يرقب ربّه في سعيه وحديثه، ويدرك جلالة التبليغ عن رب العالمين.

والمنتسبون لطلب العلم إما وعّاظ وإما فقهاء، والخلط بين الوظيفتين أدى لمفسدة كبيرة، إذ لا يمكن للواعظ أن يفتي وهو لا يملك أدوات الفقه ومَلَكَة الاجتهاد، ولا يمكن للمفتي أن يدعو إن لم يكن مدركا لأحوال العباد، أو غير مدرك للحد الفاصل بين الحكم الشرعي، وبين ما يستوجب جذب العباد لطريق الهداية، فربما يأتيه السائل مستفتيا فيبلّغه الحكم دون لفت نظره لمكارم الأخلاق، كبيان حال قوامة الرجل على المرأة. فحكم القوامة لا يعني استبداد الرجل ببيته دون إشاعة المودة والمشاورة، فربما لا يأثم من لا يستشير زوجته، إلا أنه أفسد عليها حياتها وربما دينها. فالفقيه يحتاج لبيان الحكم مع ما يتبعه من أمور كمكارم الأخلاق وأحوال أهل المروءة.

إن القاعدة الفقهية تقضي بأن "الحكم على الشيء فرع عن تصوّره"، إذ لا يمكن لمن يتّسم بالنزاهة والشرف أن يحكم على أمر دون إدراك طبيعته وصفاته وكُنْهِه. والتصوّر ليس محصورا في النظر في النص، بل يدخل فيه النظر في حال المستفتي، واعتبار تغير العادات أو الزمان. فالعاجز مثلا غير الصحيح عند الحكم، ودقة النظر في أحوال المستفتين ومراعاة اختلاف الزمان وتغيّر العادات؛ تفرِّق بين الفقيه وناقل العلم غير المؤهل للفتوى.

ثم جاء المناطقة ليضعوا أوصافا للعلم والجهل، فاعتبروا العلم "إدراك جازم مطابق للواقع عن دليل"، فلا ينطبق وصف العلم دون تحقق شروطه الأربعة: الإدراك، والجزم، والمطابقة للواقع، وارتباط ذلك بوجود دليل. وعلى النقيض يُعرف الجهل بأنه ضد العلم، وجعلوه على قسمين: جهل بسيط، وجهل مُرَكَّب. فالبسيط لا ينافح صاحبه عنه ولا يستدل له على قوله الخاطئ، والمركّب هو الذي يعتقد صاحبه بصواب الخطأ، ثم يستدل له بفهم خاطئ ظانّاً أن استدلاله وقع في محله.

هذه المسائل التي نمر عليها في لحظات، أخذت حيزا وعُمُراً من تفكير الفقهاء والمناطقة ليصلوا إلى تلك النتيجة، ودعّموا أقوالهم بالأدلة، واستقرت ضوابط الفهم والاستدلال على قواعد كثيرة، منها تلك المذكورة. وقد أغفل بعضَها منتسبون للعلم الشرعي، فوقعوا في دوائر الجهل البسيط أو المركّب. فمن تقاصر علمه عن الإحاطة بمسألةٍ ما، فالأولى له أن يصمت، ومن دَخل باب المسائل الملتهبة كقضايا المرأة أو السياسة الشرعية دون الإحاطة بجوانب الفقه والدعوة، فحري به أن يصمت لئلا يوقع الناس في فتنة، ومن أحدث الفتن واستدل على صوابية فعله واستمسك به فينسحب عليه وصف الجهل المركَّب.

وقد أنذرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم من أيام كأيامنا إذ قال: "لا تبكوا على الدين إذا وَلِيَهُ أهلُه، ولكن ابكوا عليه إذا وَلِيَه غيرُ أهلِه". وقد وقع ما يوجب البكاء والنحيب.
التعليقات (0)