قضايا وآراء

رسالة إلى الشاب الإسرائيلي هليل جارمي

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
هليل جارمي هو شاب إسرائيلي يبلغ من العمر تسعة عشر عاما، وهو الآن داخل السجن بسبب رفضه أداء الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال؛ احتجاجا منه على جرائم هذا الجيش ضد المدنيين الفلسطينيين في مسيرة العودة.

كتب هليل رسالة بين فيها دوافع اتخاذه قرار رفض الخدمة العسكرية، جاء فيها:

"هذه السنة، وفي وقت موجة المظاهرات غير المسلحة التي أقيمت بجانب جدار قطاع غزة، قمت بقراءة ما كتبه أحد مبادري المظاهرات أحمد أبو رتيمة، وأثر بي وجود أشخاصٍ يفضلون التعامل مع الوضع القائم بين النهر والبحر بدون رفع السلاح. وأنا مثلهم، أؤمن بالعصيان المدني.

عندما كنت أصغر سنا لم أكن أعتقد أن الجيش هو فقط واجب بديهي، وإنما قمة كل الطموحات؛ رغبت في الانضمام إلى وحدة مقاتلة مميزة بقدر ما أستطيع. ولكن كلما كبرت سنا، واطلعت على الوضع الموجود بين البحر والنهر، فهمت أنني لن أستطيع القيام بذلك.

لن أستطيع الانخراط لأنني تربيت منذ أن كنت صغيرا على الإيمان بأن جميع البشر يولدون سواسية. لا أؤمن بأن هناك أي قاسم مشترك لجميع اليهود يفصلهم عن جميع العرب. لا أؤمن بأنه يجب أن أحصل على معاملة مختلفة عن طفل ولد في غزة أو جنين، وأنا لا أؤمن بأن أسى أو فرح أحدنا أكثر أهمية من تلك لدى الآخر. ومن هذا الإيمان استوجب عليّ أن أسأل نفسي، ما هو الأمر الجيد لكل من يعيش بين البحر والنهر؟ ثلاثة ملايين مواطن في الضفة الغربية وشرق القدس يعيشون تحت احتلال عسكري أو ضم مفروض مستمر لأكثر من نصف قرن. مليونا مواطن في قطاع غزة ما لبثوا أن تحرروا من الاحتلال، وإذ بهم يعيشون تحت حصار عسكري منذ عقد ونيف؛ تديره إسرائيل من اليابسة والبحر والجو. لا يمكن تبرير هذه السياسة بأيديولوجية ترى جميع الناس على أنهم سواسية.

لا يمكن تبرير هذه السياسات لأن نظام إسرائيل هو نظام ينتخبه ثمانية ملايين مواطن، ولكنه في الواقع يحكم ثلاثة عشر مليونا. يتم اتخاذ القرارات الأكثر أهمية لحياة سكان قطاع غزة والضفة الغربية من قبل الحكومة الإسرائيلية. هي تقرر مَن مِن سكان غزة يستطيع الدخول والخروج، هي تقرر ما الذي يستطيعون استيراده وتوريده، هي تقرر متى يكون لديهم كهرباء، أين يمكنهم الصيد وفي أية مناطق داخل القطاع لا يستطيعون التجول. حكومة إسرائيل تقرر من أين، وإلى أين يستطيع سكان القطاع السفر، هي تقرر أي أراض يستطيعون استصلاحها، وهي تستطيع أن تقرر باعتقال كل واحد في أية لحظة. هذا الأمر الصواب الوحيد الذي أستطيع القيام به؛ لأنني غير مستعد لخدمة نظام غير ديمقراطي كهذا.

أنا أعي تماما أن كل دولة تحتاج إلى جيش للدفاع عنها، لكن لا يمكنها تبرير كل استعمال للجيش بهذا الادعاء، ويجب أن يكون لكل نظام حكم خطوط حمراء، بحيث لا يمكننا دعمه إذا عبرها. أنا أعتقد أنه بعد أكثر من خمسين عاما من الاحتلال، فإن خطوطي الحمراء تم عبورها بكل تأكيد. على الرغم من أن قراري الأولي كان قرارا شخصيا بعدم الانخراط لكي لا أكون جزءا من تصرفات الجيش، إلا أنني قررت خلال السنة الأخيرة أن أرفض بشكل علني. قررت القيام بذلك لأنني أؤمن أنه يمكن للعصيان المدني أن يؤدي إلى تغيير، وإلى الوصول إلى إحساس العدالة لدى الطرف الذي يحصل على حقوق أكثر بين البحر والنهر. يتم استعمال العصيان المدني عادة عندما يفقد النظام المصدر الشرعي لسلطته. وأنا أعتقد أنه بعد خمسين عاما ونيف بدون ديمقراطية، فإن النظام بين النهر والبحر قد فقد هذا المصدر. أنا أعتقد أن موجة المظاهرات قرب جدار القطاع، وردة فعل الجيش الإسرائيلي، حولت هذه الطريقة لتصبح ذا صلة بشكل أكبر اليوم بشكل خاص، ولذلك قررت، مثل هؤلاء المتظاهرين أن أقوم بالعصيان المدني".

* * *

شعرت بضرورة تعزيز هذا الموقف الأخلاقي لهذا الشاب الإسرائيلي الذي انتصر فيه انحيازه للحق والعدل على قوة ضغط المجتمع الذي نشأ فيه، لذلك أرسلت إليه رسالة ستسلم إلى يده فور مغادرته السجن، جاء فيها:

عزيزي هليل:

إن قوة المواقف الأخلاقية لا تقاس بما تمثله من رأي الأغلبية، بل تقاس بميزتها الذاتية. وعلى مدار التاريخ، كان أصحاب المواقف الأخلاقية هم الأثقل في الميزان والأعظم إلهاما، حتى لو كانوا وحدهم في مواجهة التيار السائد، ذلك أن الإنسان حين يقرر أن يتخذ موقفا أخلاقيا، فإنه يحقق جوهره الإنساني ويتصالح مع الرسالة التي من أجلها خلقنا في هذا الكوكب، وإن كلفه ذلك التضحية بشيء من راحته وهدوئه الشخصي.

لقد قرأت رسالتك واستمعت إلى حديثك في تسجيل اليوتيوب، فأشرق الأمل في قلبي بأن هناك نواة لتأسيس واقع أكثر عدالة وإنسانية في حدود ما بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط؛ واقع لا يستمد شرعيته من عدد الذين يثقون بإمكانية تحقيقه حاليا، بل يستمد شرعيته من أنه الخيار الأكثر اقتصادية والأقرب إلى مبادئ الحق والعدل، والمستند إلى احترام الإنسان وليس إلغاءه. هذا الخيار من شأنه أن ينهي المظلمة التاريخية الواقعة على الشعب الفلسطيني، وفي ذات الوقت يراعي مخاوف الأجيال الجديدة في المجتمع الإسرائيلي التي ولدت فوجدت نفسها في واقع معقد، وفي رقعة جغرافية مضطربة محرومة من الأمن والسلام.

إن الفلسطينيين لن يستطيعوا إلقاء الإسرائيليين في البحر، وإن الإسرائيليين لن يمكنهم إلغاء حقيقة أن هناك أكثر من عشرة ملايين فلسطيني لا يزالون يحلمون بيوم ينالون فيه حريتهم، ويعودون إلى ديارهم التي هجروا منها قسرا عام 1948. هنا لا يبدو أمامنا سوى خيارين لا ثالث لهما: إما أن نبحث عن صيغة توافقية تقوم على أساس العدالة وحقوق الإنسان والمساواة، وإما أن نستمر في حالة اللااستقرار سبعين عاما أخرى.

عزيزي هليل:

لقد نشأت في قطاع غزة الذي لجأ إليه جدي بعد أن هُجر قسرا من بلدته الأصلية الرملة. أغبطك أنك تستطيع أن تزورها بسهولة في الوقت الذي لم أتمكن فيه من تجاوز حاجز بيت حانون مرة واحدة في حياتي.

تفتحت عيناي منذ سنوات عمري الأولى على مشاهد جنود إسرائيليين يطلقون الرصاص الحي على جيراني وأقاربي، ويعتقلونهم ويهدمون بيوتهم، ويفرضون منع التجول الذي كان يحبسنا أياما طويلة تصل أحيانا شهرين في بيوتنا. بعد أن كبرت ارتفعت وتيرة العنف أكثر، فلم تعد البيوت تهدم بالجرافات إنما بقنابل طائرات "إف 16"، وصار القتلى بالآلاف بعد أن كانوا بالمئات، وصارت الدبابات تتجول في حيّنا بدل الجيبات العسكرية.

في عام 2005 أعاد جيش إسرائيل انتشاره حول قطاع غزة، ففرض حصارا مشددا، وأغلق المعابر ومنع الفلسطينيين من حرية السفر برا وبحرا وجوا. وطوال هذه السنوات شن ثلاث حروب، ذهب ضحيتها أكثر من 3500 فلسطيني.

لقد تعلمت في المدرسة قانون إسحاق نيوتن الذي يقول إن لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه، والواقع يقول إن الشعب الفلسطيني منذ سبعين عاما يمارس ضده التهجير والاحتلال والاستيطان والقتل والاعتقال والحصار.. فهل يتوقع بعد ذلك أن تجني الحكومة الإسرائيلية أمنا واستقرارا! نعم إن الشعب الفلسطيني هم الطرف الأضعف عسكريا وسياسيا، ولكن بقاءهم في هذه الأوضاع المنافية للعدل وحقوق الإنسان وانعدام الأمل؛ سينتج بالتأكيد ردة فعل متمثلة في تعزيز حالة اللااستقرار، وحرمان دولة إسرائيل من أن تعيش مثل الدول الطبيعية وتكرس طاقاتها للإنتاج العلمي والازدهار الاقتصادي.

عزيزي هليل

نحن اليوم في عام 2018، حيث لم يعد الوعي الإنساني قادرا على تفهم كلمات مثل الاضطهاد العنصري والاحتلال وإذلال شعب لشعب آخر. إن العالم اليوم يتجه ليكون أكثر انفتاحا وتشبيكا في علاقاته الثقافية والاقتصادية، وإن الجدران الفاصلة بين الشعوب والثقافات تتحطم، وإن بقاء دولة تقيم جدرانا إسمنتية عالية لتحبس خلفها مجموعات عرقية أخرى يبدو مشهدا منكرا وغير قابل للاستمرار.

أعتقد أن الحل قريب ومتاح، وهو لا يحتاج أكثر من شجاعة المبادرة وتأسيس منظور جديد للتعامل؛ بعد أن فشلت الحلول التقليدية في تحقيق تسوية عادلة.. دعونا نناضل سويا من أجل حقوق الإنسان، ومن أجل دولة ديمقراطية لكل مواطنيها، ومن أجل أن يتعايش الفلسطينيون والإسرائيليون على أساس الحق والمواطنة والمساواة؛ لا على أساس التفرقة العنصرية.

أعلم أن هذا الخيار سيواجه عقبات كثيرة، لكنه خيار يستحق أن يحتشد كل الأحرار للنضال في سبيله، وأن نسخر سنوات أعمارنا المحدودة لتقريب تحقيقه، فهو الخيار الأكثر إنسانية وعدالة، بل والأكثر واقعية؛ لأن أيا من الفلسطينيين والإسرائيليين لن يتمكن أحدهم من محو الآخر من الوجود. وقد تعلمت من القرآن أن الأفكار النافعة لكل الناس تمكث في الأرض، أما الزبد فيذهب جفاء..
التعليقات (0)