مقالات مختارة

أمريكا vs إيران: المواجهة في العراق وسوريا ولبنان

عبد الوهاب بدرخان
1300x600
1300x600

الحملة الأمريكية ضد إيران هيمنت على المناخ الدولي، واستطاع دونالد ترامب تتويجها في الأمم المتحدة، سواء بخطابه أمام الجمعية العامة أو بترؤسه الجلسة الخاصة لمجلس الأمن.

 

وأصبح العنوان: أمريكا في مواجهة إيران... وهذا يحقق لقادة النظام الإيراني ما ادّعوه دائما وما قدّموا به "تجربتهم" كدولة أولى ووحيدة لا هدف لها سوى "مقاومة الاستكبار"، وإلحاق هزيمة تاريخية به.

 

كان الملالي يردّدون أن العالم معهم طالما أنه يكره أمريكا ويعاديها، ولعلهم يجدون في "المواجهة" الحالية مع أمريكا أكبر دعاية تتحقّق لهم ولنهجهم في مراحل سابقة، لكن ظروفهم تغيّرت ولم يعد في إمكانهم أن يواصلوا تضليل ذواتهم وأتباعهم.

 

بالطبع، لديهم قدرة على الإيذاء والتخريب، وقد أثبتوها في العراق وسوريا واليمن ولبنان، لكنهم برهنوا في العراق خصوصا أنهم لا يقدمون في المقابل سوى إذكاء الانقسامات ومنع قيام الدولة. ثم إن خيبتهم الكبرى ظهرت جليّة في الداخل، إذ أهدوا الى شعبهم "الحرس" والصواريخ ومشروع القنبلة النووية، لكنهم عجزوا عن توفير الحياة الطبيعية والعيش الكريم.

تأتي "الفرصة" لإيران كي تتحدّى أمريكا في أسوأ ظرف داخلي، مع أن الظرف الدولي هو الأفضل على الإطلاق. فاستراتيجية تحجيم النفوذ الإيراني التي تبنّاها ترامب استُبقت أو أُرفِقت بسلسلة عقوبات تربك حلفاء أمريكا وأصدقاءها فضلا عن خصومها، بل ترعبهم وتهدّد بمفاقمة أزماتهم المالية والاقتصادية، كما أنها تضع السياسات الدفاعية الغربية ذاتها في اختبار صعب.

 

لا يمكن أن يتوفّر لإيران مناخ دولي أكثر ملاءمة، فالعلاقات بين واشنطن والعالم هي الأكثر توترا واضطرابا منذ زمن، لكن ثمّة ثلاث ظواهر: الأولى، أن جمهور ترامب يسانده ويحول حتى دون ذهاب خصومه الجمهوريين بعيدا في معارضته طالما أنه يجيّر قراراته لـ"أمريكا أولا" و"أمريكا أقوى" ولـ"استعادة" أموال يعتقدها منهوبة.

 

والثانية، أن العطب المالي والاقتصادي الذي أصاب إيران، بسبب عقود من العقوبات، بدّد قدرتها على استغلال الوضع الدولي لتمرير مغامراتها.

 

والثالثة، أن الخلافات المتزايدة بين الدول الكبرى، القوية والغنية، جعلت اللعبة أكبر من إيران كما جعلت أزمتها أكثر عمقا وخطورة من أن تعالجها بالاعتماد على ميليشيات خارجية نشأت على التعصّب المذهبي وأكسبها سلاحها غير الشرعي تخلفا سياسيا، فصارت عنوانا لعدم الاستقرار في مجتمعاتها.

هل ترى طهران "بارقة أمل" في تمايز مواقف أعضاء مجلس الأمن عن موقف ترامب، وفي حضوره، وهل تكتشف في هذا الخلاف ما يلاقي طموحاتها، وهل تستخلص أن العالم منقسم بين غالبية معها تريد الحفاظ على الاتفاق النووي و"أقليّة" تقتصر على أمريكا وتريد اتفاقا آخر؟

 

الجواب جاء من ترامب نفسه: "ليس مهمّا ما يفكّر فيه قادة العالم في شأن إيران، فالإيرانيون سيعودون إليّ، وسيحصلون على اتفاق جيّد، كما أعتقد".

 

في الواقع السياسي، ليس هناك ما يؤيّد حجّة ترامب المقتنع بأن تجربته مع كوريا الشمالية (بوساطة مباشرة من كوريا الجنوبية، ومساهمة غير مباشرة من الصين) يمكن أن تتكرّر مع إيران، وليس واضحا أي جهة يمكن أن تتولّى التوسّط والتسهيل.

 

لذلك، يسخر الملالي من لا واقعية ترامب في رهانه على قرار إيراني بالتفاوض مع أمريكا، لكن خياراتهم الأخرى مكلفة وغير مضمونة العواقب. كان هذا التفاوض سيكون طبيعيا وسلسا مع إدارة باراك أوباما التي قدّمت الكثير (لقاء الاتفاق النووي) وافترضت أن إيران ستنتهز الفرصة لفتح صفحة جديدة معها.

 

اختارت طهران أن تضيّع فرصة أوبامية سهلة ومواتية لتجد نفسها أمام فرصة ترامبية لا تملك سوى أن ترفضها، لكن "المواجهة" مع أمريكا، طالت أم قصرت، ستكون مؤذية لإيران، وربما تضطر المرشد علي خامنئي، هو الآخر، لتجرّع "كأس السم".

كانت لهجة ترامب الاستقوائية موجّهة عمليا إلى روسيا والصين، كذلك إلى الأوروبيين، فعقدة الاتفاق النووي بملابساتها الديبلوماسية أصبحت وراءه، أما مشكلة البرنامج النووي الإيراني فأضحت جزءا من استراتيجيته لتغيير السلوك الإيراني، وهو ما تعتبره طهران سعيا إلى تغيير النظام نفسه، أي أن نظامها وسلوكها متلازمان.

 

وإذ دأبت روسيا والصين الموقّعتان على الاتفاق النووي دأبتا على أقصى الاستغلال للتنافر الأمريكي- الإيراني، قبل الاتفاق وبعده، وتتهيّآن لتحقيق مكاسب من المواجهة المقبلة.

 

ما لا تعترف به طهران أن الدول الأوروبية الثلاث، الموقّعة أيضاً على ذلك الاتفاق، تدافع عنه كعقد دولي يجب احترامه وليس عن إيران أو عن استغلالها الاتفاق، وتدافع عن مصالح أتاحها لها الاتفاق وليس عن السياسات الإقليمية لإيران أو عن برنامجها الصاروخي الذي تنقل منتجاته إلى الحوثيين في اليمن و"حزب الله" في لبنان وبعض "الحشد الشعبي" في العراق.

 

كل ذلك يعني أن طهران لا تستطيع الرهان على أي دعم من «الشركاء» في الاتفاق مهما بلغ استياؤهم أو عداؤهم لأمريكا ترامب.

عدا إصرار الرئيس الأمريكي على العقوبات التي ستضرب القطاع النفطي الإيراني، ما تعتبره طهران خطا أحمر، فإن مستشاره للأمن القومي جون بولتون والممثل الأمريكي الخاص بسوريا جيمس جيفري، يؤكدان الآن عدم مغادرة المنطقة "طالما أن القوات الإيرانية خارج الأراضي الإيرانية".

 

وفي ذلك تحدٍّ واضح لروسيا وحض لها على التعاون لـ"إخراج إيران" أو تحمّل العواقب التي لا تفيد الأساليب العسكرية في التخلص منها.

 

فللمرّة الأولى يصدر تهديدٌ أمريكي للنظام السوري إذا لم يتعاون مع "إعادة كتابة الدستور تمهيداً لإجراء انتخابات"، إذ قال جيفري إن "شغلنا الشاغل سيكون (عندئذٍ) جعل الحياة أسوأ ما يمكن لهذا النظام المتداعي وسنجعل الروس والإيرانيين الذين أحدثوا هذه الفوضى يهربون منها".

 

صحيح أن هذا مجرد كلام، لكنه يعبّر عن سياسة أمريكية غير مسبوقة في الأزمة السورية، وتكمن خطورته في أن التعقيدات الداخلية للأزمة لم تُحسم عسكرياً، وفي أن منظومة العقوبات تريد التحكّم في الحسم السياسي.

هذا ينطبق إلى حدٍّ كبير على العراق، فمهما بلغ الولاء لإيران فلن يجرؤ أي رئيس حكومة على مطالبة الأمريكيين بالمغادرة، مع ما يستتبع ذلك من عزل وعقوبات يصعب تحمّلها وتداعيات كارثية على دولة لم تنهض بعد، وعلى بلد يعاني من صعوبات في الخروج من نكبته "الداعشية".

 

الفارق بين النفوذَين الأمريكي والإيراني هو تصوّر كلٍّ منهما لمصلحته ومدى تواؤمها مع مصلحة العراق والشعب العراقي.

 

فالأمريكي ارتكب أفدح الأخطاء في المرحلة السابقة، لكنه يريد الآن للدولة وجيشها ومؤسساتها أن تسود، وإذا تحقّق ذلك، فإن ضمانته وحدها يمكن أن تجتذب المساهمات الدولية في إعادة الإعمار. أما الإيراني فلا يرتاح إلا بوجود مليشياته وبتغوّلها على الدولة واختراقاتها المؤسسات وترهيبها لمكوّنات المجتمع كافةً، ولعل أحد أهم أهداف إيران إبقاء العراق في نوع من العزلة الإقليمية والدولية.

 

والمؤكّد أن العراق سيكون البؤرة الرئيسة للمواجهة التي ربما يشكّل إغلاق القنصلية الأمريكية في البصرة أول وقائعها، فإيران لا تعتبر إخراج الأمريكيين ممكنا فحسب بل حتميا لإحراز "النصر" وإحباط حملة ترامب عليها.

لا شك في أن بقاء الأمريكيين في سوريا يستدعي مواصلة إسرائيل هجماتها على الوجود الإيراني، لكن إذا استمر التجميد الروسي لهذه الهجمات وإذا أصرّت موسكو عليه، فإن الأمريكيين والإسرائيليين سيعتبرون أن روسيا أصبحت في حال تحالف مع إيران وسيبحثون عن سبل أخرى لملاحقة نشاطات التسليح الإيرانية.

 

ولا تستبعد الكثير من المصادر تشكيل فرق خاصة من فلول فصائل المعارضة للقيام بعمليات تستهدف الإيرانيين، وقد تشمل لاحقا مواقع للنظام والروس.

 

لكن تحريم الأجواء السورية على إسرائيل دفعها أكثر إلى النظر في اتجاه لبنان، مستندة إلى إعلان "حزب الله" بلسان أمينه العام، أنه حصل على أسلحة متطوّرة وصواريخ دقيقة.

 

وليس التقرير الإسرائيلي الأخير عن نشر "حزب الله" صواريخه في مناطق آهلة بالسكان، بمعزل عن مدى صدقيته أو عدمها، يشكّل خطوة أولى في بناء ملف قضية لتبرير أي عمل حربي يستهدف "الحزب" وصواريخه، لكنه سيُكلف لبنان وشعبه دما ودمارا.

 

أما العقوبات التي أعدّها الكونغرس الأمريكي ضد هذا "الحزب" فهي خطوة مساندة للخطط الإسرائيلية، لكنها في الوقت ذاته ضربة قاسية للاقتصاد اللبناني.

* كاتب وصحفي لبناني

 

(عن صحيفة الحياة اللندنية)

التعليقات (0)