كتاب عربي 21

تصاعد هجمات تنظيم "الدولة الإسلامية"

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600
شهدت الأسابيع الأخيرة تصاعدا وتنوعا في هجمات تنظيم "الدولة الإسلامية" في بلدان عديدة، من العراق إلى سوريا، مرورا بمصر وتونس وليبيا واليمن، وصولا إلى أفغانستان ونيجيريا والفلبين. وشكلت الهجمات المنسقة في شمال سوريا (شرق الفرات) الأكثر إثارة وعنفا وفعالية، فقد تمكن التنظيم من استعادة السيطرة على بلدات عديدة، الأمر الذي يكشف خرافة الدعائية السياسية التي روجت لمقولة هزيمة التنظيم، وأسطورة إعلانات القضاء عليه وتقويض قدراته.

بعيدا عن الإعلانات الدعائية السياسية المبشرة بأفول ونهاية تنظيم "الدولة الإسلامية"، ثمة قناعة باتت راسخة لدى الخبراء والباحثين ومراكز الأبحاث والأجهزة الاستخبارية الدولية بأن الإعلانات عن هزيمة التنظيم بصورة نهائية لا تتمتع بالواقعية والمصداقية، رغم طرد التنظيم من مناطق سيطرته المدينية الحضرية في العراق وسوريا. فقد كشفت الوقائع الميدانية عن حقائق مغايرة أشارت إلى سرعة تكيّف التنظيم مع التطورت الميدانية، وتمتعه بمرونة شديدة بالتحول من المركزية إلى حالة من اللامركزية، حيث تمكن من إجراء إعادة هيكلة تنظيمية على الصعيد العسكري والأمني والإداري والشرعي.

كان زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، في كلمته الأخيرة (في 22 آب/ أغسطس 2018) بعنوان "وبشر الصابرين"، والتي نشرتها "مؤسسة الفرقان الإعلامية" التابعة للتنظيم، قد أشار إلى مسارات إعادة الهيكلة، واعتماد اللامركزية، والتحول من مرحلة الحروب الكلاسيكية، إلى الاعتماد على منطق حرب العصابات، وتكتيكات الاستنزاف، وتدشين حقبة جديدة تقوم على مبدأ الصير الاستراتيجي. فحسب البغدادي، "دولة الخلافة باقية وليست محصورة في هجين" (في إشارة إلى جيب للتنظيم في دير الزور)، وأن أمريكا بـانتظار "أهوال" تفوق معارك العراق وأفغانستان، وشدد على أن معيار الهزيمة والنصر يتعلق بإرادة القتال، فـ"ميزان النصر والهزيمة عند المجاهدين أهل الإيمان والتقوى ليس مرهوناً بمدينة أو بلدة سُلبت، وليس خاضعاً لما يملكه المخلوقون من تفوق جوي، أو صواريخ عابرة، أو قنابل ذكية... إن كفتي هذا الميزان تخضعان لما يملكه العبد من يقين بوعد ربه، وثبات على توحيده وإيمانه، وإرادة حقة في قتال أعداء الدين"، كما يقول البغدادي.

برهن التنظيم على أن هزيمة مشروع التنظيم السياسي المرتبط بالسيطرة المكانية على المناطق الحضرية وفرض حكامته وسلطته كدولة خلافة لا يعني نهايته، بل يشير إلى العودة للعمل كمنظمة فاعلة تنتشر في مساحات غير مأهولة، وتجمعات سكنية معزولة في مناطق الفراغ الأمني؛ تتموضع في عمق الأرياف والفضاءات الصحراوية النائية وتشن هجمات مميتة. ورغم القدرات الذاتية وإرادة القتال العالية لدى التنظيم، إلا أن الظروف الموضوعية تلعب دورا كبيرا في إعادة انبعاث التنظيم. ففي كافة البلدان التي شهدت صعود تنظيم الدولة وتراجعه، لم يحدث تحول حقيقي في المجالات السياسة والاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن تنامي حالة التنافس والصراع الدولي والإقليمي، وتراجع الحديث عن الحلول السياسية وبرامج التنمية وإعادة الإعمار، وتجذرت الأسباب العميقة الباعثة على العنف والتمرد. إذ يحدد جميع المتخصصين في حقول علم النفس وعلم لاجتماع والعلوم السياسية؛ جملة من الأسباب المحلية الجذرية الأساسية العميقة لتنامي العنف، تشمل الافتقار إلى الديمقراطية والحريات المدنية وحكم القانون، ودول فاشلة أو ضعيفة، وتنامي التدخلات الخارجية، وهي أسباب موضوعية غائبة عن مقاولي "حرب الإرهاب".

تكشف هجمات تنظيم "الدولة الإسلامية" الأخيرة عيوب استراتيجيات حرب الإرهاب. فمع بروز الخلافات المحلية وتنامي الصراعات الدولية والإقليمية وتضارب مصالح الفاعلين، يعيد التنظيم ترتيب صفوفه ويتموضع في ثنايا الاختلافات. ويُقدر التحالف الدولي وجود ألفي عنصر من التنظيم في جيب "هجين". وفي سياق غياب استراتيجية أمريكية واضحة شرق الفرات، بدأت تركيا تصعد دبلوماسيا وعسكريا من نهجها في التعامل مع الأكراد، وسط تردد أمريكي والحديث عن إعادة بناء التحالفات، حيث بدأت القوات التركية والأمريكية دوريات مشتركة في منبج السورية، في الوقت الذي تواصل فيه أنقرة شن هجومات على الأكراد في منطقة قريبة، الأمر الذي استثمره التنظيم بشن هجمات واسعة على قوات سوريا الديمقراطية، وهو تحالف هجين مكون من فصائل كردية وعربية. وأفضت الهجمات خلال الأسبوع الماضي إلى استعادة تنظيم الدولة كامل المناطق التي خسرها في محافظة دير الزور، شرق سوريا، وتمكن من استعادة بلدات "السوسة" و"المراشدة" و"موزان" و"الباغوز" في جيب "هجين"، في ريف دير الزور الجنوبي، وتمكن من قتل نحو 70 شخصا وجرح العشرات وأسر ثمانية أشخاص، حسب إحصائيات التنظيم والمرصد السوري لحقوق الإنسان.

أفضت محاولة "قوات سوريا الديمقراطية"، المدعومة من قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لطرد تنظيم الدولة من آخر جيوبه المتبقية في شمال شرقي نهر الفرات في ريف دير الزور الشرقي، إلى فشل ذريع وخسائر كبيرة، حيث فشلت الحملة التي أعلن عن انطلاقها في 11 أيلول/ سبتمبر 2018 ضمن معركة "عاصفة الجزيرة"، تحت مسمى "معركة دحر الإرهاب"، من ثلاثة محاور رئيسية؛ الأول من جهة الأطراف الغربية لمدينة هجين، والثاني من جهة البادية الشمالية لقرى السوسة والباغوز وأبو الحسن، والثالث من جهة الحدود السورية- العراقية. ويشارك في المعارك قرابة ستة آلاف مقاتل من "قسد" و"مجلس دير الزور العسكري"، بدعم جوي من طيران "التحالف الدولي" وكتائب المدفعية الفرنسية، بالإضافة إلى قوات من الجيش العراقي ومليشيات "الحشد الشعبي" التي أوكلت لها مهمة تشديد المراقبة على الحدود السورية- العراقية، لمنع انتقال مقاتلي التنظيم بين الجانبين، والمشاركة في عمليات القصف الجوي والبري على مواقع التنظيم. وقد تحولت المعركة إلى كارثة محققة على قوات سوريا الديمقراطية، التي أعلنت عن وقف "معركة دحر الإرهاب" مؤقتا، بسبب القصف التركي على مواقع كردية في شمال سوريا، والذي انتقدته واشنطن داعية أنقرة إلى "التنسيق والتشاور". وأسفرت هجمات تنظيم الدولة على قوات سوريا الديمقراطية، منذ الإعلان عن معركة دحر الإرهاب، عن مقتل أكثر من 350 مقاتلاً من قوات سوريا الديمقراطية، وسقوط مئات الجرحى وعشرات الأسرى.

وعقب فشل المفاوضات الروسية مع تنظيم "الدولة الإسلامية"، حول مختطفي السويداء، تجددت المعارك بين قوات الأسد والتنظيم في منطقة تلول الصفا، في 28 تشرين الأول/ أكتوبر 2018. وأسفرت هجمات التنظيم، حسب وكالة "أعماق"، عن قتل وإصاية 62 عنصرا من قوات الأسد في مواجهات مع مقاتلي التنظيم، كما أفادت الوكالة عن تدمير دبابة وجرافة للنظام بصاروخين موجهين خلال الاشتباكات الدائرة هناك.

رغم أن هجمات تنظيم "الدولة الإسلامية" الأسبوع الماضي شرق الفرات في سوريا هي الأكثر إثارة، إلا أن معدل هجمات التنظيم في العراق كانت الأعلى، فقد نفذ التنظيم 39 هجوما مقابل 27 في سوريا، حسب صحيفة "النبأ" التابعة للتنظيم. وقد تصاعدت الهجمات في "ولايات" التنظيم الخارجية المختلفة، ونفذ تنظيم "الدولة الإسلامية" في29 تشرين أول/ أكتوبر الماضي هجوما في بلدة الفقهاء، في جنوب منطقة الجفرة وسط ليبيا، أدى إلى مقتل خمسة أشخاص، ضمنهم ثلاثة مدنيين، واختطاف عشرة آخرين، وسيطر مقاتلو التنظيم على البلدة التي تقع في منطقة تسيطر عليها القوات الموالية للمشير خليفة حفتر، قبل أن ينسحبوا جنوبا. وشهدت العاصمة التونسية في 29 تشرين أول/ أكتوبر الماضي؛ عملية انتحارية نفذتها إمرأة في شارع الحبيب بورقيبة، أصيب خلالها عشرون شخصا على الأقل، 15 منهم رجال شرطة.

وفي مصر تبنَّى تنظيم "الدولة الإسلامية" الهجوم على حافلة كانت تقلُّ أقباطاً في طريقهم إلى دير الأنبا صموئيل في محافظة المنيا بصعيد مصر، في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، والذي أسفر عن مقتل سبعة أشخاص وإصابة 13 شخصاً على الأقل. وفي الوقت الذي أعلن الجيش المصري البيان رقم 29، الذي يرصد تطورات العملية العسكرية المتواصلة، ضمن عملية "المجابهة الشاملة" في شمال سيناء، شمال شرق البلاد، التي أعلن عنها في شباط/ فبرايرالماضي، كشف التنظيم عبر صحيفة "النبأ" عدد 153 عن تفاصيل عملياته، وقال إنه تمكن منذ بدء العملية الشاملة من قتل وإصابة 375 شخصا، بينهم ضباط ومسؤولون و"جواسيس"، وأنه أعطب أكثر من 145 آلية ومدرعة. وأكد التنظيم على فشل الحملة واستمرار الهجمات. ولم تقتصر هجمات التنظيم على مناطق في العالم العربي، فقد تصاعدت عمليات التنظيم خلال الإسبوع الماضي في أفغانستان، وفي نيجيريا.

خلاصة القول أن تنظيم "الدولة الإسلامية" لا يزال يعمل كمنظمة فاعلة، ويسعى للحفاظ على هياكله التنظيمية وفاعليته الأيديولوجية ورسالته الدعائية ومصادره التمويلية، فنهاية تنظيم الدولة في سوريا والعراق لا تكتب إلا بانتهاء الظروف الموضوعية التي أوجدته، والبيئة الجاذبة التي كان أساسها الفوضى الأمنية والعسكرية والغبن الاقتصادي والاجتماعي لمعظم السكان، والاستبداد والفساد بمختلف أشكاله، والاحتراب الداخلي والتوظيفات الطائفية والتهافت الإقليمي والدولي في المنطقة. وسوف يعمل التنظيم على استغلال واستثمار حالة عدم الاستقرار والخلافات والانشقاقات والفراغات المستقبلية في العراق وسوريا، كما فعل سابقاً بين العامَين 2009 و2012. وإذا كان عام 2017 مثّل خسارة التنظيم أماكن السيطرة الحضرية، فإن عام 2018 شهد إعادة هيكلة التنظيم وترتيب صفوفه بالاعتماد على حالة اللامركزية والاستناد إلى منطق حرب العصابات. وسوف تتنامى هجمات التنظيم بحلول العام القادم، ذلك أن الأسباب والشروط والظروف الموضوعية التي أدت إلى عودة الجهادية العالمية عموما، وتنظيم الدولة خصوصا، لا تزال ذاتها لم تتغير، بل تفاقمت الأزمات بطرائق عديدة أكثر سوءا، وبانتظار الأسوأ في محيط عربي محبط ومسدود الأفاق. ومع فقدان الأمل في التغيير الديمقراطي السلمي، يصبح العنف سيد الأحكام.
التعليقات (0)